الفصل السابع والخمسون | خلف أسوار قصر أورال

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إفصاح: "اللهم آت نفسي تقواها وزكها يا خير من زكاها، أنت وليها ومولاها يا رب العالمين".

إفصاح آخر "- هل يمكن أن تمنح الأمان وتبقى خائفًا؟ = طبعًا، اسأل كل الأمهات". دانة فيصل مدوه

****************************************

الفصل السابع والخمسون

الموسيقى الكلاسيكية أخذت تُعزف في الخلفية بهدوء يتناسب مع أجواء الغرفة الساكنة.

كانت أوراق الشجر ترمي بظلالها على النوافذ منعكسة على الجدار الأرجواني الباهت بينما انعكس ضوء الشمس على الآلة الاسطوانية التي أصدرت الألحان بشكل رتيب.

عينيها الزرقاء تابعت بخواء حركة ظل أوراق الشجر كلما داعبتها نسمة من الهواء، بينما الفنجان الذي أحتوى على مشروبها الساخن المفضل ظل قابعًا بين كفي يدها يلسع بشرتها مسببًا حروقًا بسيطة من الدرجة الأولى.

كانت عيني الصبية -التي عُينت مؤخرًا- تراقب المشهد أمامها بشيء من التوجس والدهشة، قبل أن توجه نظراتها نحو الوصيفة الأكبر عمرًا والمسؤولة عن إرشادها مؤقتًا تنتظر أي رد فعل.

لكن الوصيفة الأكبر ظلت تقف بثبات وبنظرة شاردة غير آبه بحال سيدتها، بل بدت وكأنها معتادة على الأمر.

لم تتمكن الصبية من نكران ذلك الشعور السيء، ذو القشعريرة الغريبة وهي تشاهد امرأة تكاد تكون آية في الجمال مع خصلاتها الرمادية المنسدلة فوق كتفيها مغطية ظهرها وبشرتها الصافية التي لا تنم البتة عن عمرها، تجلس لساعات على هذا الكرسي بصمت.

لسبب لا تفهمه شعرت أن الألحان تتناسب تمامًا مع مظهرها ومظهر الغرفة الفاخرة من حولها، وكأنها لوحة يمكنك تأملها لأيام، ولكن..

لوحة رمادية!

كان المشهد يبث كآبة غريبة في النفس، العينين الزرقاء الشاردة قد طوقتها هالت التعب والإرهاق والشفتين الورديتين الحادتين جفّتا بفعل كثرة الأدوية التي وصِفَت لها. بينما فستانها الجميل الهادئ التف حول جسد هزيل وهن بالكاد يحملها لتتحرك.

لم تفهم آيفيلا الخادمة الجديدة في البلاط الملكي كيف ستتعامل مع هذ المرأة الغريبة والصامتة، فهي هنا منذ الفجر ولم تسمع صوت سيدتها لمرة واحدة، أما نظراتها الخاوية فهي موضوع آخر تتساءل كيف ستتحمل وقعه عندما تضطر لمواجهتها.

كيف لهذه المرأة أن تكون ملكة لمملكتها؟

كانت تجفف يدها المتعرقه بتوتر بين الحين والآخر برداءها، تحاول أن تبدو هادئة ورزينة قدر الإمكان، فبقدر ما تنجذب كثيرًا لمعرفة ما وراء هذه الشخصيات الغامضة إلى أن عليها ألا تنسى أنها ليست بطلة أحد الروايات الخيالية فخطأ واحد كفيل بأخذ حياتها. كما أنها لا تريد المخاطرة بالراتب هنا فهو أكثر من ممتاز لصبية مثلها.

أجفل جسدها بخفة عندما طُرق الباب منتزعًا الصمت من الغرفة وكادت تصرخ بـ أخيرًا فقد شعرت أن الوقت هنا قد توقف لأيام.

اتجهت الوصيفة نحو الباب بهدوء بينما راقبت آيفيلا ببعض الفضول المشهد، عينها تتجه نحو الباب وتعود نحو مَلكتها، ولكن يبدو أن المرأة تسبح في كونٍ آخر فلم يطرف لها جفن حتى.

الوصيفة المسؤولة عادت للغرفة وقد بدا للمرة الاولى أن تعبيرها مختلف تمامًا، كان الارتباك ظاهرًا على محياها وعينها معلقة بسيدتها أخيرًا وهذا ما دفع أيفيلا لتساؤل إن كانت أخيرًا لاحظت الكأس الساخن بين يد الملكة، أم أن الطارق هو سبب هذا التغيير.

اتجهت نحو سيدتها تحت أنظار أيفيلا التي بدأت تشعر بالتوتر يتصاعد في ارجاء المكان. نفس عميق أخذته الخادمة قبل ان تنحني بخفة وتلتقط الكأس الساخن بهدوء وتضعه جانبًا. انعقد حاجبا المرأة بخفة ودون حاجة للنظر نحو خادمتها نطقت للمرة الأولى بهدوء وصوت هادئ ذو بحة واضحة "أعِديه مكانه".

انحبست أنفاس أيفيلا ولم تتحرك فكل ما طُلب منها أن تراقب وتنفذ أوامر الوصيفة دون سؤال أو تردد.

"سيدتي، لدي أخبار أظن أن عليكِ سماعها" قالت الخادمة بأدب قبل أن تلتقط من أحد أدراج الطاولة الخشبية بجوارها عبوة صغيرة تحتوي مرهمًا طبي.

لم تجب الملكة، ولكنها لم تعترض، لذلك انحنت الخادمة على ركبتيها ممسكة اليد المتضررة برفق وبيدها الأخرى بدأت بتوزيع المرهم على راحة يد ملكتها بينما تقول: "لقد وصلتني أخبار أن القصر اليوم قد يتشرف بزيارةٍ ساره".

لم يبدُ الاهتمام على وجه سيدتها، وعلى الرغم من ذلك ابتلعت الخادمة وحاولت التمسك بثباتها، تركت يد الملكة فوق حجرها وقالت دون أن ترفع رأسها "جلالته ولي العهد قد يزورنا اليوم".

شعرت أيفيلا بدقات قلبها ترتفع لشدة الحماس الذي ضربها فجأة. ولي العهد الذي لم تسنح لها الفرصة يومًا لرؤية وجهه؛ الذي تتحاكى نساء المملكة كلها بوسامته.. قادم، اليوم!

ولكن حاجبها ارتفع بدهشة لتعبير الملكة الذي تغير للمرة الأولى منذ أن رأتها، فقد اتسعت عينها ونظرت للخادمة تحت يدها بدهشة ممزوجة بسعادة وقد تبدل حالها وقالت بسرعة "أحقًا ما تقولين؟ هل أنتِ متأكدة ناريل؟" أومأت الخادمة ناريل بابتسامة مهزوزة.

راقبت أيفيلا كعادتها تعبير الأشخاص أمامها ولم يكن على صبية ذات دهاء وملاحظة سريعة مثلها ألا تلاحظ تعبير الخادمة ناريل والذي لم ينم عن سعادة أو حتى راحة.

"إلهي العزيز! ما الذي ننتظره إذًا؟ على أن أتجهز لرؤية صغيري.. أيّدين!". شعرت أيفيلا وكأن دلوًا من الماء المثلج سُكب فوق رأسها.

الاسم الوحيد الذي تم حظره نهائيًا، لدرجة ظنت أنها نسيت وجود قصته، لم تفهم لما بحق الإله قد تذكره الملكة الآن.

كيف لأمير ميت أن...

"سيدتي أنه ولي العهد جـ.." لم تكمل ناريل جملتها بسبب نهوض الملكة من مكانها بحماس غريب وقد شعرت أيفيلا لوهلة أن المرأة أمامها تبدلت لأخرى، وكأن الطاقة دبت في الصورة الرمادية وتلطخت فجأة بألوان الحياة، الموسيقى الهادئة الكئيبة أصبحت فجأة ألحان سعيدة وشمس الصيف أشرقت في الغرفة.

"أتعلمين كم مضى على آخر مرة رأيت فيها أيّدين ناريل؟ أنه شاب وسيم كما تعلمين، لقد ورث جمالي وطباعي أنا، عليك تنظيم جدولي بالكامل حتى يتسنى لي البقاء معه قدر الإمكان" استمعت أيفيلا لحديث الملكة الذي بدا كغناء لا أوامر تلقيها!

عينها اتجهت بارتباك نحو ناريل التي ظلت في مكانها تحدق نحو المقعد الفارغ بشيء من الأسى، ولكن عينها اتجهت نحو جلالتها بابتسامة صغيرة ونهضت على قدميها وأومأت بهدوء قائلة: "بالطبع جلالتك، سيكون كل شيء كما تريدين".

أومأت الملكة بحماس واتجهت بخطوات متسارعة نحو المرآة ممسكة بخصلات شعرها متمته: "أتساءل إن كان علي جمعه للأعلى أم تركه منسابًا.." التفتت نحو ناريل قائلة: "أتتذكرين كيف كان يحب أيّدين أن أصفف شعري؟" أومأت ناريل وأجابت: "كان يظنك جميلة دائمًا مهما كانت تصفيفة جلالتك، ولكنه يحب رؤيته مصفف لأعلى حتى يتسنى له رؤية عنق جلالتك مزين بالمجوهرات التي أهداها لك".

اتسعت ابتسامة الملكة قائلة: "أنتِ محقة، أمرأه ذكية" تمتمت في نهاية جملتها وعادت تحدق في المرآة، ولكن شيء فشيء بدأت تعبيرات وجهها تذبل وتبهت وقد تركت شعرها مجددًا لينسدل فوق كتفيها..

"ناريل.." وقفت بجوارها الخادمة تنتظر أوامرها لتلتفت نحوها الملكة "أتظنين أن أيّدين سيأتي لرؤيتي؟ تعلمين أنني أحبه بشدة، لكنه دائم الانشغال لذلك.. أتظنين أن بإمكانه صنع بعض الوقت لتقضيته معي؟".

برفق أمسكت ناريل يد ملكتها وربتت عليها بمواساة تنظر لسيدتها بعطف وتشعر بفوائدها يتمزق وأجابت: "لا تقلقِ جلالتك، لابد انه مشتاق لكِ أيضًا، سأتأكد من مرور سموه لقضاء بعض الوقت في جناحك".

كانت أيفيلا في مكانها تراقب الحوار بالكامل وتحاول تمالك نفسها حتى لا تصرخ متسائلة عما يحدث!

أيّدين أورال هو الأمير الميت!

لما يتعاملان وكأنه على قيد الحياة؟

لكنها دفنت جميع تساؤلاتها داخل عقلها كما اعتادت منذ الصغر وفضّلت أن تراقب بصمت وتسأل أن رأت أن الوضع مناسب لتلقي سؤالًا.

في النهاية نادتها ناريل حتى يجهزا حمامًا لجلالتها وينظمان كل شيء حتى تتمكن من مقابلة ولي العهد.

تبعت أيفيلا ناريل خلال ممرات القصر بصمت تراقب بين الحين والأخرى تعبير سيدتها تحاول قراءة أي فكرة قد تدور في خلدها.

"أعلم ما يدور في رأسك". أجفلت أيفيلا وألقت بأنظارها نحو حذائها الأسود وقالت بأدب: "لا شيء يدور في بالي سيدتـ.." قاطعتها ناريل بحزم دون النظر لوجهها "لا تكذبِ علي.." ابتلعت أيفيلا ولم تعقب..

"لم يتم اختيارك لهذ المنصب عشوائيًا ايتها الصبية، أنتِ ذكية، تملكين من النباهة والدهاء ما يكفي لجعلك تنجحين وتنجين بحياتك داخل أسوار هذا القصر، الفضول جيد، ولكن الكثير منه سيء، سيءٌ جدًا أيتها الصغيرة.. ومن الذكاء معرفة عمن تخفين اسئلتك ومن يجب عليك طرح هذه الاسئلة عليه".

أومأت أيفيلا بطاعة، ولكنها لم تتمكن من منع نفسها قائلة: "يمكنني إيجاد إجابات أسئلتي دون إزعاج الآخرين بطرحها" التفتت الاثنتين عند الزاوية وأومأت مجموعة من الخادمات مرت بهما باحترام نحو ناريل.

نظرت بطرف عينها نحو أيفيلا ببعض الفضول والاستغراب "وكيف لكِ ذلك؟" سألت دون مقدامات لتجيب الأخرى "الصبر! مراقبة ما يحدث بصبر كافي وصمت كفيلة بإجابة جميع أسئلتي".

ربما كانت تعبير ناريل جامدة، ولكنها لم تنكر شعور الاستحسان داخلها، التوصية التي وصلتها لهذه الصبية كانت غريبة ومشجعة بشكل يثير الريبة، فالشابات في هذه العمر يسببن المشاكل دائمًا بسبب سلوكهن خاصة الخادمات منهن، ولكن هذه المرة..

يبدو أنها وقعت بين يدها جوهرة ملطخة ببعض الغبار..

"جيد" تمتمت بينما تساءل عقلها، كيف ستتكيف هذه الصبية داخل هذه العاصفة؟

....

جالسًا فوق الأريكة في نهاية الغرفة، منحني الظهر وقد أسند كلا مرفقيه فوق ركبتيه جامعًا كفي يديه معًا يحاول تدارك أمره.

ظلت عينه ثابته على طرف السجاد الفاخر أمامه، ولكن عقله كان مغيبًا تمامًا عن محيطه، فك تشابك يده ونظر نحوهما بهدوء ولم يكن من الصعب عليه ملاحظة الرجفة الخفيفة التي أصابتهم.

لم يحتج للكثير من الذكاء ليعرف أنه يتعرض لنوبة هلع صغيرة، قلبه يكاد ينفجر لدرجة تؤلم صدره وأنفاسه يشعر بها تخرج بصعوبة باردة كالجليد.

لم يكن من السهل لأيًا يكن ملاحظة ما يدور في عالم أتريوس الخاص، فمن ينظر له لن يرى سوى رجل جامد التعبير ربما يفكر فيما حدث من ساعات أو ربما يشغل باله أمر لا علاقة له بالحرب كلها.

لم يكن ليخمن أي أحد أن هذا الجبل الصخري يمر بنوبة هلع حالية.

لازال يتذكر المشهد وكأنه يمر أمام عينه، الشعور الذي دفع جسده بقوة للاستيقاظ بعد أن غفت عينه بتعب وسقط نائمًا في غرفته بعد أحداث اليوم الشاقة، ولكن كعادة اكتسبها بسبب ماضيه، كان نومه أشبه بحاله ترقب، بإمكانه دئمًا الشعور بمن حوله وبأي خطر قد يصيبه في أي لحظة.

ولكن فجر هذا اليوم ما أيقظه لم يكن شعورًا عادي بالخطر.

القشعريرة الفظيعة التي أصابت جسده فجأة، والطاقة التي دفعت لعنة الظلام داخل أوردته بالصراخ وكأنها تتفاعل بجنون دفعته للقفز مستيقظًا في ثوانٍ.

كان عقله وجسده يعلمان أين عليه التوجه قبل أن يفكر حتى، وكأن اللعنة هي ما كانت تتحكم وتوجهه، كان يشعر بالطاقة تتضخم حيث أخطر مكان في القصر.

ولكن ما أثار فزعه..

ما دفع ساقيه لتسابق الريح وكأن حياته مرهونة بسرعة وصولة..

هو ذاك الحضور الذي يدركه ويشعر به جيدًا.

طاقة جلنار التي تجري مجرى الدماء في جسدها، كانت متواجدة داخل ذات نطاق اللعنة التي شعر بتواجدها.

خلال الدقائق القصيرة الذي انطلق فيها وكأنه يسابق الوقت، أسوأ السيناريوهات كانت تجري كفلم سريع ومجنون داخل رأسه.

لقد شعر وكأن المشهد سيُعاد مجددًا، سيرى جسد أحدهم ملقى مجددًا أمامه والدماء تحيطه!

سيخسر أحدهم مجددًا بعد أن ظن أن لا خسارة قد تغير حياته للأسوأ مجددًا.

لم يبالِ بالحرس ولم يبالِ بأوكتيفيان وثونار اللذين ركضا خلفه بسرعة ولما يلقي لعنة حتى إن كان مضطرًا لاستخدام قوته في هذه اللحظة فقط لإنقاذها.

لم يرَ سواها في الحديقة وجهًا لوجه مع بوابة كل ما تنذر به هو الموت.

دون تفكير لم يتردد في جعل جسده حائلًا بينها وبين البوابة، لم يفكر فيما قد يصيبه، لم يأبه بانكشاف امره لأول مرة ولم يلقِ بالًا سوى بشيء واحد فحسب.

جلنار!

عينه ارتفعت نحوها.

واقفة بحاجبين معقودين ويدين ضمتهما لصدرها عينها تتحرك بين ثونار التي تصيح في وجه شقيق فينيسا وبين فينسيا القابعة بهدوء فوق أحد الأرائك يرتجف جسدها بعنف وعينها المتسعة اللامعة بفعل الدموع تراقب ما حولها بلا إدراك.

لم يكن يعطي للأمر اهتمامًا، كل ما يهمه هو المرأة التي وقفت تستمع بصمت حتى الآن، عينه تتفحصها، يتأكد مجددًا إن كان قد أصابها سوء فمن عادتها إخفاء إصابات كتلك لنفسها.

وما إن أدرك مجددًا ما يفعله أراد صفع رأسه بالجدار بشدة.

مازال يعاني من ارتجاف يديه ولكنه قلق على جلنار.

كيف فاته الأمر؟ أكان تلقائيًا وعفويًا جدًا لدرجة أغفلته عن ملاحظته؟ كيف لم يرَ وقوعه لها لهذه الدرجة؟ بينما لاحظت فينسيا التي راقبتهما ليوم واحد فقط!

والأسوأ من كل هذا..

كيف سيتعامل مع هذه المشاعر، لا يمكنه التصديق أنه وقع لأكثر شخص حياته معرضة للخطر في كل هذه الأحداث، قائدة الفرسان التي تلقي نفسها بلا تردد داخل الخطر تملك أعلى نسبة لفقدان حياتها قبل نهاية الحرب..

فقد كان مدرك لهذه الحقيقة منذ أن بدأ يتعامل معها أثناء التدريب.

بدأت جميع ذكرياته تعود واحدة تل الأخرى، كيف لم يلحظ اهتمامه بها أثناء التدريب، أو حتى شعوره التام بالراحة حولها، لن يكذب على نفسه فقد كان مدركًا لحقيقة أنه معجب بشخصيتها، معجب بالهدوء الذي تمنحه له وحتى صراعتهما كانت مصدر متعة له، ولكنه لم ينتظر لمرة أن تتحول تلك المشاعر لتصبح بهذا العمق!

العمق الذي يدفع نوبة هلع لتصيبه ما إن كاد يفقدها أمام عينه!

أجفل جسده بخفة غير ملاحظة عندما شعر ببرودة غريبة من حوله ليرفع عينه يحاول التقاط السبب لكنه لم يلتقط بنظره شيئًا فجميع الموجودين مهتمين بالجدل الدائر حول براءة فينيسا بسبب تواجدها في المكان ذاته في ذات اللحظة التي نشأت بها البوابة.

لذلك قرر تجاهل هذا الشعور المزعج، ولكنه ظل حذرًا فوجود طاقة غريبة في المكان فجأة لا تنذر بخير في أغلب الأوقات داخل هذه الممالك.

لم تلتقط عينه المتسبب الرئيسي لهذا الشعور، ولكن على العكس كانت أعين يوجين تحدق عن قرب مبالغ فيه باتريوس وقد تجاهل هو الآخر كل الفوضى الدائرة في المكان وظل يحاول التحديق بروح الرجل الوحيد الذي أثار ريبته منذ البداية.

ضيق يوجين عينه وهو يتفحص أتريوس مرة أخرى قبل أن يتمتم "كيف لم يصبك أذى؟".

لازال يتذكر يوجين مشهد البوابة وطاقتها تنازع تعويذة ثونار لإغلاقها، ولكن ما كان واضحًا اهو أن تلك الطاقة الملعونة كانت متصلة بظهر أتريوس الذي وضع نفسه حائلًا بينها وبين جلنار.

بدت تلك الطاقة كخيوط تتمسك بأي مصدر حياة من حولها حتى تبقى مفتوحة، وفي هذه اللحظة كان على يقين أن تلك البوابة كانت متصلة بشكل خطير بظهر أتريوس، وإن كان شخصًا آخر لكان حال لرماد أو في حالة اكتسابه لطاقة قوية كأتريوس فكان كأقل تأثير ليُصاب ظهره بسحر ملعون وما كان ليظل جالسًا كما هو الآن.

"لست خبيرًا سحريًا لكنك يا رجل لست طبيعي، أو أن قدرتك على تحمل الألم فاقت الوصف" تمتم مجددًا وكأن أتريوس قادر على سماعه.

وبعيدًا عن شكوكه لم يتمكن يوجين من تجاهل ملاحظة اضطراب الرجل، على الرغم أن من الصعب ملاحظته إلا إن كنت شبحًا يحدق بأعين الرجل عن مسافة لا تقل عن نصف متر لمدة خمس دقائق فبتأكيد ما كان ليظن أنه تأثر بمقدار شعرة.

ولكنه أدرك أنه ربما بشكل أو بآخر كان مخطأ.

ربما هذا الرجل بالفعل يهتم بشكل قوي بجلنار وحياتها، لا يعرف يوجين ما الذي تغير بالضبط، لكنه على يقين أن هذه ليست تعبير رجل لا يهتم.

"لكنني مازالت مصمم أنك ذو شخصية حقيرة" قال محدثًا نفسه قبل أن يعتدل في وقفته ويكتف ذارعيه ببعض الانزعاج.

على الطرف الآخر كانت جلنار تحدق بيوجين بطرف عينها تتساءل عما يتمتم بينه وبين نفسه كالمجنون وهو يحدق بأتريوس بينما تحتاج لمهارته الغريبة في ترتيب أفكارها حاليًا.

كانت قد ملت من شجار كل من ثونار التي تصر على أن فينسيا لها يد في فتح البوابة ودفاع أندريس المستميت عن شقيقته وشرف عائلته الذي تلوثه اتهامات ثونار المتهورة.

دلكت ما بين حاجبيها بانزعاج واضح قبل أن تنظر لهيئة فينسيا..

تعلم أن ثونار لا تلقي اتهامات هوجاء، فبالفعل كيف يمكن لبوابة بهذا القدر من الطاقة أن تُفتح بين ليلة وضحاها ويشاء القدر أن تتواجد ابنة العائلة في ذات المكان وذات الوقت!

لكن إن فكرنا في الأمر بعقلانية، فمن أين لها بالطاقة التي تسمح لها بفتح بوابة كهذه؟

كان من الواضح أن المرأة مصابة بحالة من الفزع في الأساس، حتى أنها لم تدافع عن نفسها منذ أن بدأت جلسة الاتهامات هذه! لقد جلست في مكانها ترتجف كقط مبلل وأعينها تحدق بالفراغ وكأنها واجهت الموت.

"جلنار، بحق الإله قولي شيء، إن كانت بريئة لما تواجدت في مكان كهذا إذًا" صاحت ثونار بغضب تحاول كبته وقد وجهت أخيرًا حديثها لجلنار بعد أن فقدت الأمل في أوكتيفيان الذي أصر على أن إلقاء التهم على عائلة ملكية دون التأكد لهي جريمة.

زمّت جلنار شفتيها وقد نظر الجميع لتعبير وجهها في محاولة لقراءة أفكارها، ولكنها في المقابل حدقت بوجه فينسيا الجامد.

"جلنار، تعلمين أن.." قاطعت ثونار أندريس بحدة قائلة: "سيدة روسيل! لا تخاطبها وكأنها صديقتك من الحي". ارتفع صدر أندريس وقد أخذ نفسًا قويًا في محاولة لكتم غيظه نحو ثونار.

"ما كانت لشقيقتي أن تقوم بشيء كهذا، إنها ليست محاربة أو مشعوذة، لذلك كيف لفتاة مثلها أن تقوم بشيء كهذا؟" قال متجاهلًا ثونار وقبل أن تفتح جلنار شفتيها تدخل سيد العائلة أركستوراي الذي عاد لتوه للقصر بعد أن خرج فجر اليوم قبل الحادث بساعة فقط لإنهاء بعض الشؤون الخارجية.

"ما الذي يحدث هنا بحق الإله" اقتحم صوته المكان تزامنًا مع دفعه باب الغرفة على مصراعيه لتتنهد جلنار وأوكتيفيان في ذات الوقت بتعب.

"ما يحدث هي أن ابـ.." قُطِعت ثونار بسرعة عندما أمسك جوزفين بكتفها أخيرًا محاولًا إنقاذ الموقف.

شرح أوكتيفيان الأمر على مضض محاولًا اختيار كلماته بحكمه متجنبًا غضب سيد العائلة حتى لا يتعقد عملهم أكثر.

"أتتهمون ابنتي بالخيانة...لا، أتتهمون عائلتي بالخيانة؟" ضغط أوكتيفيان اسنانه ضد بعضها بقلة صبر فقد عرف انه من الصعب الالتفاف حول الاتهامات.

"ليس هذا ما نقـ..".

"نعم".

نظر نحو ثونار التي أجابت ببساطة عاقدة ذراعيها حول صدرها وفي هذه اللحظة راودته رغبة قوية في إنهاء حياته فيرتاح للأبد من اضطراره لتعامل مع هذا الفريق.

"لقد استضافكم قصري بكل كرم، وهذا ما ألقاه في المقابل؟ أنا لا أقبل ولو حتى التلميح بخيانة أحد أفراد عائلتي، لقد كانت ابنتي ضحية، رأت الموت بعينها، ضحية يجب الاعتناء بها لا اتهامها" كان صوته يتعالى مع كل كلمة بانفعال قبل أن يلتفت لجلنار بغضب واضح قائلًا: "أريد أن أعرف بشكل واضح موقف قائدة الفرسان في هذا الشأن، لقد كانت أول المتواجدين في المكان، وكقائدة لهذا الفريق، أتوجهين اتهامًا بالخيانة لعائلتي؟".

على الرغم من غضبه فلم يكن بإمكانه تجنب شعور الرهبة في هذه اللحظة، إن ظنت هذه المرأة أمامه أن عائلة خائنه، فهناك احتمالية ضخمة أن يتم نفيهم تمامًا والأسوأ، حياة ابنته ستكون في خطر واضح فتهمة الخيانة ليست بمزحة.

ولكنه تمسك بثبات وموقفه وهو يواجه نظرات ابنة التوبازيوس بكفين مقبوضين بتوتر.

أعين جلنار اتجهت نحو فينسيا وللمرة الأولى تبادلها الأخرى النظرات بأعين دامعة وبشيء من اليأس الذي ميزته جلنار في ثوانٍ.

شيء ما صرخ بفكرة مقيته لجلنار، تلك النظرات، الليلة السابقة، كل شيء أعطاها فكرة عن سبب وجود فينسيا في هذا المكان.

"لا يمكن اثبات اتهامًا خطير كهذا بلا دليل" بلا إدراك نفسًا مرتاح انسل من بين شفتي أركستوراي وابنه أندريس بعد سماعهما جملة جلنار.

"ولكن لقد كـ.." قاطعت جلنار ثونار بإيماءة من رأسها وقالت: "أعلم ما يثير شكوك.." ثم التفتت لكل من سيد العائلة وابنه مفسرة موقف ثونار: "ساحرة فريقنا ليست بمزحه، وما كانت لتوجه اتهامًا كهذا لأحدهم دون سبب، من الواضح أنها تملك أسبابها الشخصية".

تنهيدة غادرت شفتي ثونار عندما استشعرت موقف جلنار الداعم عكس أوكتيفيان الذي لم يسمح لها حتى بتفسير موقفها الهجومي.

أعادت جلنار أنظارها نحو الساحرة تنتظر منها تفسيرًا عقلاني مما دفع ثونار لأخذ نفسًا عميق قائلة: "التواجد في مكان يحمل هذا القدر من الطاقة المضرة ليس بمزحة، إن أرادت التنزه فلما قد تترك حدائق القصر الأمامية وتقرر التنزه فجرًا في الحديقة الوحيدة التي وضحنا أهمية عزلها عن الكل، لا يوجد سبب واحد يدفع أحدهم لتواجد في مكان كهذا إلا إن كان يريد قتل نفسه".

كتفت ذراعيها فوق صدرها بحزم ونظرت لكل من سيد العائلة وابنه في انتظار تبرير في المقابل.

ولكن في هذا الوقت رنت جملة ثونار داخل أذن جلنار وعاد ذاك الشعور المقيت الذي دفعها لتحديق بفنيسيا.

ظل أندريس يفتح فمه ويغلقه أكثر من مره في محاولة لإيجاد تفسير وهو ينظر لشقيقته التي لا تحاول حتى الحديث ليجد نفسه في النهاية يبدل عينه بين جوزفين وجلنار بيأس لتبرئة أسم شقيقته.

"ألا يمكننا الكشف عن وجود طاقة أو لعنة تسري في جسدها؟".

التفت الجميع نحو جوزفين الذي تدخل أخيرًا مسببًا عقدة بين حاجبي ثونار مما دفعه لتفسير وجهة نظره: "أعني، تلك اللعنة أو الطاقة، إن كانت الآنسة أركستوراي قد تسببت في وجودها أو حتى المساعدة في ذلك ألن يكون لهذا أثر في جسدها؟"

عادت الأنظار بسرعة ببعض الأمل نحو ثونار التي توقف لتفكر لوهلة ثم تنهدت قائلة: "شيء كهذا ممكن، ولكن لن يكشف طاقة كهذه إلا ساحرة ظلام لا أنا، إن تدخلت في محاولة لمعرفة نوع الطاقة التي تجري في جسدها قد أتسبب في تفجير عقلها ما لم تتمكن من التحمل".

عاد الصمت يستعمر المكان مجددًا وسط يأس عائلة أركستوراي الواضح لتقطع فينسيا هذا التوتر لأول مرة منذ الصباح قائلة:

"افعليها إذًا!".

انعقد حاجبا ثونار والتفتت جميع الرؤوس نحوها بقوة -زائدة عن اللزوم- ولكن نظرات المرأة ظلت تحدق بالأرضية قبل أن ترفعها بحزم وبرود نحو ثونار وكررت: "إن كان هذا سيبرئ أسم العائلة فافعليها".

لم يدم الصمت الذي سببه الذهول سوى للحظات قبل أن يقطعه أندريس بصوته العالي ونبرته المعترضة الغاضبة "أجننتِ؟ أتتمنين الموت أختاه؟ لما لا يوقف أحدكم هذا الجنون بحق خالق الجحيم؟". تقدم والدها برزانة أكثر من ولده، ولكن لازالت نبرة الاعتراض واضحة في صوته وهو يقول: "لن أضحي بأحد أفراد عائلتي لأجل إثبات تهمة باطلة من الأساس لا أر.." قاطعته فينسيا:

"أظن أن الوقت قد حان لتحترم رغباتي لمرة، ورغبتي هي تبرئة أسم العائلة وإن كان الثمن حياتي".

حدق بها السيد أركستوراي بصدمة لا يعلم من أين ظهرت فجأة هذه الشخصية ومتى بالضبط انطفأت عين ابنته لهذ الحد؟ لا يمكن بالطبع الموافقة على قتل ابنته، تبًا لاسم العائلة، ان اضطر الهرب والآن فسيأخذ عائلة ويفعل لذلك خطى أمام ابنته كحاجز بينها وبين ثونار وقد التمس استحالة اقناع فينسيا بأي حل آخر في هذه اللحظة.

عينا أندريس حدقت بالموقف يكاد يفقد عقله، ولكنه انتهى ينظر لجلنار بيأس يملك أملًا صغيرًا أن بإمكانها إنقاذ شقيقته على الرغم من تحديقها الصامت بفينسيا.

في المقابل ظل أتريوس جامدًا في مكانه، ولكن عينه اتجهت نحو فينسيا وقد التمس في نبرتها ونظرتها ما التمسته جلنار وهذا ما دفعه لتنهد بتعب، شعور من الذنب أزعجه لوهلة فقد كان يعرف أن لقاء كهذا نهايته درامية كما يرى، ولكن مجددًا، ألقى بكل شيء عرض الحائط لأنه لم يتحكم بقلقه اتجاه أحدهم.

"لدي طريقة!".

ارتفع رأس أتريوس بسرعة نحو صاحبة الجملة وأراد لوهلة جذب قميصها صارخًا: حبًا في الله يا امرأة توقفي عن المخاطرة بحياتك كل خمس دقائق. لكنه كان يعرف أن محاولاته لن تجلب نفعًا أو مضرة.

"أرجوكِ، إن كانت تضمن سلامتها فافعليها" هتف أندريس بسرعة وقد تقدم ممسكًا بكتف جلنار بتلقائية وقد دفعه اليأس.

"لست على يقين من نجاحها، ولكني سأحاول، لن تمس الآنسة أركستوراي بسوء". وكانت تلك المرة الأولى التي شعر فيها السيد أركستوراي بأن ابنة التوبازيوس حقًا موجودة هنا لنجدته لذلك تقدم منها باحترام وتماسك على الرغم من انهياره داخليًا وطلب في احترام: "سأكون مدينًا لكِ بحياتي".

أومأت بابتسامة صغيرة قبل أن تتقدم وتجلس على ركبتيها أمام فينسيا التي حدقت بدورها في جلنار بمزيج من المشاعر الذي لم تتمكن جلنار من قراءته.

يد امتدت فوق كتفها لترفع رأسها لصاحبة اليد، نظرت لها ثونار ببعض التردد وقالت: "أمتأكدة أنك ستكونين بخير؟" أومأت جلنار بخفة، أرادت شرح ما ستفعل لكنها حقًا لا تملك الوقت أو حتى الصبر لذلك كما الجميع كذلك.

لم تكن مرتها الأولى في إغماض عينها ورؤية كل تفاصيل لما يوجد حولها باستخدام قدرتها الغريبة في التجول عبر الفراغ بعقلها فقط، ولكنها لم تجربها قط على انسان حي.

"جلنار، لدي فكرة صغيرة عما ستفعلين لكن تذكري أنك جربتها على شجرة يا عزيزتي لا انسان" صدر صوت يوجين من خلفها وقد حثها على الرغبة في الابتسام حقًا وبجديه هذه المرة، ولكنها منعت نفسها ليردف: "أظن أن الاثنين مخلوقات حيه، ولكن لندعو الرب ألا تنبت للفتاة ذراع ثالثه".

أخذت نفسًا وحاولت ألا تفكر في جملة يوجين المحفزة كثيرًا، عينها التقت مجددًا بخاصة فينسيا قبل أن تمد كف يدها وتطلب منها ان تمد كفها في المقابل لتفعل فينسيا ما طُلب منها بهدوء.

أمسكت جلنار بكف المرأة القابعة أمامها قبل أن تغلق عينها ولم تكن في حاجة لمحاولة التركيز فالصمت المرعب والذي أطبق على المكان بسبب التوتر كان كافيًا لها.

حاولت مرة..

اثنتين..

ثلاث..

قبل أن تبدأ في الرؤية، تفاصيل الغرفة من حولها ترتسم كخط قلم أبيض فوق صفحة سوداء، كان بإمكانها رؤية الخطوط الخارجية لأجساد الموجودين، بدا وكأن عقلها يتجول في الغرفة راسمًا تفاصيلها.

حركت يدها ممسكة برسغي فينسيا قبل أن تضغط بخفة بإبهامها فوق مناطق النبض محاولة التركيز فقط على جسدها ولم تكن في حاجة لبذل مجهود فقد انتقلت الرؤية مباشرة لجسد فينسيا..

خلايا الجلد، العضلات، الشرايين والأوردة، جميعها بدأت ترتسم صورة دقيقة لها قبل أن تتبدل الأوردة بالكامل لتصبح سيالات من الطاقة، كان بإمكانها رؤية الطاقة تنتشر في جميع أرجاء جسد فينسيا عبر ذارعيها نحو قلبها لتتدفق مجددًا لعقلها.

لم تكن جلنار مدركة تمامًا عما تبحث، ولكنها على يقين أنها ستعرف ما إن ترى ولم تكن مخطئة، الطاقة في جسد فينسيا كانت بيضاء ناصعة لا مجال لوجود أي طاقة شر متداخله فيها، الطاقة الوحيدة التي بدت مشوهة هي الطاقة في رسغها الأيمن والذي أُصيب عندما فُتحت البوابة.

لم يكن هذا التشوه يجري مع طاقة جسدها، بل كان أشبه بكتلة تُسبب ضررًا لصاحبته لذلك لم يكن من الصعب على جلنار فهم أن فينسيا بالفعل لا تجري داخلها أي لعنة أو سحرٌ أسود!

أخذت نفسًا عميقًا وتذكرت حديث الشبح العجوز إليف من قبل والذي دفعها لمحاولة تنظيم الطاقة داخل جسدها سابقًا، بذات الطريقة دفعت نفسها لمحاولة إزالة تلك الكتلة المشوهة من جسد فينسيا.

لم يكن على جلنار وصف ما يحدث، فجميع من حولها كانوا يراقبون بأعين متسعة جسد فينسيا يشع كالجمرة، وجميع مسارات الطاقة في جسدها واضحة للعيان.

كان هذا الإثبات كفيل لتبرئتها فورًا.

ما إن تمكنت جلنار من فك العقدة، اندفعت تلك الطاقة المشوهة عبر أوردة فينسيا مندفعة خارج جسدها لتترك جلنار رسغ المرأة التي انتفض جسدها ونهضت واقفة وقد أصبتها رغبة في التقيؤ، وهذا ما دفعها للركض بسرعة خارج المكان، ولكن لم تسعفها سرعتها لتتمكن من الوصول للحديقة فاستندت على أحد الزوايا مفرغة ما في معدتها.

السائل الأسود الذي اندفع خارج جسدها كان علامة واضحة أن جسدها أصبح خالي من أي لعنة قد أصابتها.

لحق بها والدها بسرعة يرافقه أندريس ليبقى الفرسان وحدهم في الغرفة يحدق كل واحد منهم بالآخر.

"أهذا كافٍ لإثبات براءتها؟" سألت جلنار موجهة أنظارها لثونار التي تنهدت رافعة كفي يدها باستسلام قائلة: "أكثر من كافٍ".

"أظن أن علي تبليغ القصر الملكي" تمتم جوزفين وهو يدلك جانب عنقه بانزعاج "بعد التأكد للمرة الأخيرة أن القصر بأمان، تجهزوا جميعًا فعلينا التوجه للقصر الملكي" قال جوزفين بصوت أعلى جاذبًا انتباه الجميع قبل أن يلتفت مربتًا على كتف أوكتيفيان قائلًا: "سأرسل مرسولًا يعلن قدومنا".

أومأ أوكتيفيان موافقًا ليتحرك جوزفين خارج المكان دون ضافة كلمة أخرى، وبالرغم من جمود ملامحه إلا أن عيني ثونار التي تعلقت بوجهه التقطت ذلك الانزعاج الطفيف والعقدة بين حاجبيه لتتنهد بتعب.

"سأذهب لتفقد عائلة أرسكتوراي" أعلن أوكتيفيان هو أيضًا وقبل أن ينسحب من الغرفة التفت نحو جلنار التي وقفت على قدميها وقال "أريد منكِ اجراء مسح أخير على القصر وحدائقه لتأكد من خلوه من أي لعنة أخرى" أومأت جلنار بهدوء ليلتفت ناويًا المغادرة، ولكنه توقف مكانه وأغمض عينه بانزعاج وزفر ليقول:

"وحبًا في الله تفقدي حالة جسدك إن كان بخير، لقد أصابك ذات السحر الذي أصاب الانسة أركستوراي و.." طحن أسنانه ضد بعضها قبل أن يقول على مضض وهو متجه للخارج "وتفقديه معك، قد يموت قبل أن ينطق بحرف" تمتم بجملته الأخيرة قاصدًا أتريوس وبهذا غادر الغرفة.

ارتفع حاجب أتريوس باستغراب وأرد بشدة بصق: وما شأنك أنت؟ ولكن مغادرة أوكتيفيان فور إلقاءه لجملته منعته من ذلك.

"هل طلب منك للتو فحص اتريوس؟" سأل زوندي مائلًا نحو جلنار التي مازالت تحدق بالباب في محاولة لتفسير أفعال هذه المجموعة مؤخرًا.

"أظن ذلك أيضًا" تمتمت رافعة كتفيها نحو كل من زوندي وثونار.

لكنها التفتت نحو أتريوس مدركة أن أوكتيفيان محق، فقد بدأت أحداث صباح اليوم تعود لذاكرتها شيء فشيء، وقد أدركت أن الأحمق وضع نفسه حائلًا بينها وبين طاقة قاتلة دون تفكير.

ما ان اتجهت قدمها نحوه حتى نهض دون أن ينبس ببنت شفة واتجه نحو الخارج لاحقًا الاثنين قبله لتتنهد جلنار مدلكة جبينها قائلة: "أنا في حاجة للعودة إلى الإلترانيوس حقًا".

"لا أظن ذلك".

التفتت لصاحبة الجملة التي مرت بجوارها مضيفة "عندما عدت بدو كالأموات الأحياء، أظن أن الاكاديمية لم تتهاون في تدريبهم ساعة واحدة" بدا زوندي قلقًا لهذا الخبر أكثر من جلنار نفسها.

"رائع" سخرت جلنار قبل أن تنظر للاثنين الباقيين معها وتطلب قائلة: "تريدان مساعدتي في اجراء مسح سريع على المكان؟" ابتسم زوندي ووافق دون تردد بينما التفت ذراع ثونار حول عنق جلنار قائلة: "أهناك شيء آخر ممل يسعدني فعله من أجلك؟" ابتسمت جلنار مجيبة "لا أظن ذلك، لدينا مهمة مملة واحدة لننتهي منها قبل أن يقتلنا سيادة العقيد". رفعت كف يدها كتحية عسكرية ساخرة.

وبالرغم أن الاثنين لم يفهما اشارتها إلا أنهما ضحكا لتعبير السخرية على وجهها.

اختفت ابتسامتها تدرجيًا وطلبت: "أيمكنكما البدء قبلي؟ أريد الانتهاء من شيء ما وسألحقكما فورًا". ضيقت ثونار عينها التي تلقي نظرات اتهام قائلة: "أتتهربين قائدة؟" نكزها زوندي قبل أن يسحب كتفها نحوه متجهًا للخارج وقال: "بالطبع، خذِ وقتك".

بدلت ثونار عينها بينهما بغيظ وهي تتذمر لذراع زوندي الملتفة حول كتفها تحاول سحبها وإسكاتها في ذات الوقت، فقد كان من الواضح ما تريد جلنار فعله ولم يرد إحراجها أكثر.

تنهدت بعد أن عم الهدوء الغرفة مصاحبًا خروج الجميع من المكان لتلقي نظرة أخيرة حيث كانت فينسيا تجلس منذ قليل.

"ما الذي يدور هنا؟" تبع يوجين سؤاله بنكز رأسها بخفة لتبعد عينها عن المقعد المُذهب وتنظر نحوه. "لا شيء" أجابت بابتسامة صغيرة ليأخذ نفسًا قائلًا: "والصراحة؟" زمت شفتيها قبل أن تجيب مجددًا: "شيء مزعج". ابتسم برضا لإجابتها الصريحة وقال "إذًا لا تفكرِ به، لديك كفايتك من الأشياء المزعجة لتفكير بها، أحيانًا علينا ترك حياة الآخرين تسير كما يجب عليها السير".

أمالت رأسها قليلًا وهي تنظر له بسخرية قائلة: "أيها الحكيم العظيم يوجين، من أين جاءت كل هذه الحكمة؟" اتسعت ابتسامته وأشهر سبابته أمام وجهها مجيبًا: "من الحكيم الأعظم، ألا تعرفين جملته الشهيرة؟" ظلت تنظر له باستغراب تنتظر معرفة هذه الحكمة ليقول بصوت عالي:

 "هاكونا متاتا، أنها حكمة الحياة".

سقط فك جلنار وهي تراقبه يلتفت متجهًا للخارج بينما يهزر كتفيه متمتًا بأغنية فلم رسوم متحركة قديم.

"كيف بحق الله لا تتذكر تفاصيل حياتك، ولكنك تعرف أغنية سخيفة من فلم رسوم متحركة للأطفال؟" تمتمت وهي تتبعه للخارج وقد بدأت تشعر أنها ترافق إما أكبر أحمق في التاريخ أو أكبر سر منذ مجيئها لهذا المكان.

"إذًا، أين نذهب؟" كادت تتجمد لوهلة وهي تعبر الممر لكنها تمالكت نفسها حتى لا يلاحظ ذلك "الى غرفتي، أنني في حاجة لتبديل ملابسي كما ترى" هي بحد ذاتها كانت متفاجئة لسرعة إيجادها لعذر.

لازالت تشعر بالذنب في كل مرة تضطر للكذب على يوجين، ولكنها لن تكون قادرة على إخباره أنها ذاهبه لفحص صحة أتريوس، فحتى إن تصالح مع هذا الأمر، ماذا أن طلب مرافقتها وربما تظهر أعراض قوة الظلام على أتريوس، كيف ستشرح هذا ليوجين؟

كانت جميع تلك الأفكار تدور في رأسها بسرعة لدرجة منعتها من ملاحظة يد يوجين التي تمر أمام عينها تحاول إعادتها لأرض الواقع.

نظرت نحوه باستغراب ليشير للخلف قائلًا: "إن كانت نيتك تغيير ملابسك فقد مررنا بالغرف للتو". فتحت شفتيها وأغلقتها أكثر من مرة بدهشة ليتنهد ويربت على ظهرها قائلًا: "ربما عليك غسل وجهك بماء بارد، سيساعدك على الاستفاقة.." دفعها بخفة نحو ممر غرفهم وقال "سأسبقك وأذهب مع الأحمقين في جولة حول القصر، لا تتأخرِ".

كانت ممتنة جدًا لرغبته في الانسحاب فليست مضطرة لاستخدام أعذار سخيفة تدفعه للرحيل لذلك شكرته على مضض والتفتت مهرولة نحو غرفتها.

راقب ظهرها وهي تبتعد بهدوء قبل أن يتنهد متمتمًا: "تذكر يوجين، لقد قررت أن تدعمها". بعثر شعره بغيظ وعدم رضا، ولكنه أجبر نفسه على الانسحاب، على الأقل مؤقتًا.

....

انتفض جسد واندر واقفة ما أن فتحت جلنار أبواب غرفتها. هرعت نحوها بسرعة وقالت بقلق: "هل أنتِ بخير؟ هل أصابكم سوء؟ لقد كان القصر بالكامل يعج بالفوضى ولم أتمكن من معرفة ما يحدث". ربتت جلنار على كتفها تُهدئ من روعها وأجابت على أسئلتها بهدوء وهي تبدل ملابسها.

"إذًا، لقد فُتحت بوابة بالفعل؟" تمتم واندر وهي تحدق بالفراغ ولم تتمكن جلنار من سماع تلك التمتمة بسبب صوت صنبور الماء المفتوح بجوار رأسها.

غسلت وجهها مرة واثنتين قبل أن تأخذ نفسًا وتحدق بوجهها الذي يقطر منه الماء خلال المرآة "لا تقلقِ، لا أظن أن بوابة أخرى قد تُفتح في ذات المكان" قالت جلنار ولم تعرف أكانت تُطَمئن واندر الجالسة في الغرفة أم تُطمئن نفسها التي تنظر نحوها الآن.

ارتجفت شفتيها عندما أطالت التحديق بانعكاس عينها، تتذكر تلك العينين حالكتي السواد، أعين ميتة، باردة، لا حياة فيها ولا مشاعر.

لا تصدق أنها وقفت أمام خصمها وجهًا لوجه للمرة الأولى في حياتها.

أنه أشبه بالاستعداد طول عمرك لهذه اللحظة، أن تنغمس كثيرًا لتحضير نفسك لدرجة أن تنسى أن مقابلة هذا الشخص أمر أقرب مما تظن.

أغمضت جفنيها بقوة تحاول التركيز على ما هو مهم الآن.

"لنأخذ الأمور خطوة فخطوة" همست لنفسها قبل أن تجفف وجهها بسرعة وتجمع خصلات شعرها في ضفيرة وتخرج نحو واندر.

"بالمناسبة، سنذهب للقصر الملكي لذلك عليك التجهز" قالت بينما تخرج من الخزانة معطف ذو سمك متوسط لتدفئتها.

"أيعرف أتريوس هذا؟ بدا غير مهتم سوى بسريره" التفتت جلنار بسرعة نحو واندر وسألت: "أرأيته؟" أومأت واندر وأعقبت كإجابة "قبل مجيئك بقليل، لم يتوقف حتى لإخباري ما يحدث -ذلك الشقي- بدا متعبًا وأراد أخذ غفوة".

"لست متفاجئة" تمتمت جلنار مدحرجة عينها بينما تدفع بيدها داخل ذراع السترة البنية "سأذهب لتفقده، لا تقلقِ" قالت دافعة ابتسامة صغيرة لشفتي واندر.

اتجهت نحو باب الغرفة وقبل أن تمسك بمقبضه أوقفها نداء واندر لتلفت نحوها "أتنوين إخفاء معرفتك بحقيقته لوقت طويل؟" حدقت بها جلنار بصمت لوهلة تقرر ما عليها قوله.

"لا أعلم واندر، كل ما أعرفه أن الآن ليس الوقت المناسب، لذلك أتمنى منك الاحتفاظ بالأمر سرًا حتى أُقرر إخباره". أومأت واندر بتفهم رغم عدم إعجابها بهذا القرار. وبهذا أنهت جلنار محادثتهما متجهة للخارج.

وقفت أمام غرفة أتريوس وطرقت بابها مرة، اثنيتن فالثالثة، ولكنها لم تحصل على إجابة.

"إلهي! سيغضب كثيرًا" حدثت نفسها متأكدة أن دخولها غرفته دون أن يسمح لها هي إشارة لبدء شجار بينهما. أمسكت بالمقبض وقبل أن تسمح لنفسها بفتحه أتاها صوته من الداخل:

 "ماذا؟".

دحرجت عينها لنبرته الوقحة ودفعت بالباب. وكما توقعت كانت الغرفة غارقة في الظلام ولولا بعض الضوء الذي تمكن من الهروب من بين أنسجة الستائر لما تمكنت حتى من رؤية يدها.

مسحت عينها الغرفة بسرعة قبل أن تقع على الفراش في منتصف المكان، لم تفهم حقًا كيف بإمكانه الاستلقاء بهذه الأريحية في ظروف كهذه؟ لقد فُتحت بوابة منذ ساعات في ذات المكان!

"إن كنتِ لا تملكين شيئًا لقوله فسيكون من الجميل أن تلتفي للخارج وتغلقي الباب معك" ارتفع احدى حاجبيها متسائلة عن سر هذه اللهجة اللاذعة "ما سر هذه العدائية؟". لم يكلف نفسه عناء النظر نحوها، فقد ظلت ذراعه مرتخية فوق عينيه "أكنت لطيفًا معكِ أكثر من اللازم في الأيام السابقة أم أنك نسيتِ كيف أتعامل في العادة؟".

حدقت بهيئته لوهلة بينما تفكر أنه محق، طبيعة أتريوس لاذعة وقاسية، ذاك الجانب الهادئ لازال استثناء ليس إلا.

وعلى الرغم من ذلك شعرت أنها في حاجة لصفع رأسه ربما.

دفعت بقدمها باب الغرفة بخفة حريصة ألا يُغلق تمامًا وصفقت بيدها مرتين لتنتشر الاضاءة عبر أرجاء الغرفة.

انزعاج أتريوس كان واضحًا وقد أوضح ذلك من خلال أنينه المعترض.

"توقف عن كونك شكاء وانهض". عقدت جلنار ذراعيها واقفة بجوار سريره وطلبت بهدوء. أبعد جزء من ذراعه وعينه التي حدقت بالسقف تحركت تحدق في وجهها "هل جئت برغبة في الموت؟".

ضاقت عينها بابتسامه مستمتعة ومالت نحوه قليلًا قائلة: "حاول ان استطعت". ظل يحدق بوجهها لثواني بينما يتذكر أيامها الأولى في هذا المنزل وكيف كانت تهابه حقًا ولكنها تحارب في اخفاء ذلك، والآن تحدق في وجهه بكل شجاعة وود.

أراد الإمساك بمعصمها لكنها ابتعد بسرعة وقفزت للخلف، اتسعت ابتسامتها وقالت في محاولة لإغاظته "أصبحت بطيء أيها العجوز".

"عجوز؟!" تمتم وقد بدا يشعر بانزعاج حقيقي "ماذا؟ أتريد مساعدة لتنهض أيـ.." لم تكد تكمل جملتها حتى سُحبت قدمها بفعل أحد الجذور التي اخترقت الأرضية ملتفة حول كاحلها وسحبت جسدها لأعلى لتبقى معلقة رأسًا على عقب.

"ماذا كنتِ تقولين منذ وهله؟" توقف أنينها المتألم وارتفع عينها تنظر لأتريوس الذي جلس على طرف سريره يحدق نحوها عاقدًا ذراعيه.

"تعلم أن بإمكاني تحرير نفسي صحيح؟" ما إن أنهت جملتها حتى التف الجذر بإحكام أكثر حول كاحلها قبل أن يسحبها يمينًا ويسارًا بعنف "تعلمين أنك ستظلين معلقة حتى أشعر أنني أريد انزالك" أغمضت عينها بقوة وقد بدأت تشعر بالدورا نتيجة الدماء التي تدفق نحو رأسها.

"حسنًا لقد طال عبثك" تمتمت قبل أن تستعمل الرياح لقطع جذره، ولكنه ابتسم باستمتاع وسحب جسدها بسرعة لليمين لتخطئ التصويب في اللحظة الأخيرة.

"ألهي!"

صدح صراخ واندر التي جاءت لتو لتفقد الاثنين، ولكنها فُوجئت بموجة هواء حادة تركت أثرًا سيء على الباب الخشبي.

حدقت بأترويس ثم بجلنار الذي يتدلى جسدها ويلتف بهدوء حول نفسه "مرحبًا واندر" لوحت بابتسامة ما ان التف جسدها حتى أصبح يقابل الباب، ولكنها ما لبثت حتى أكمل جسدها التفافه لتقول "وداعًا واندر".

"أنتما حقًا مجنونان لا طائل منكما" صاحت بحنق قبل أن تخرج صافعه الباب خلفها.

"لما هي غاضـ.." لم تكمل سؤالها حتى ارتطم جسدها بالأرضية بعد أن قرر أتريوس أن يخلي سبيلها "أيها المتوحش الهمجي" تمتمت وهي تمسد كتفها الذي ارتطم أولًا.

نهضت واقفة ونفضت ملابسها متجهة نحوه في هدوء لم يتوقعه قائلة: "تعلم أن علينا الذهاب للقصر الملكي؟" انعقد حاجبيه وقال: "هذا كل شيء؟ ظننتك ستحولين الغرفة لعاصفة انتقمًا" رفعت كتفيها غير مهتمة: "لا بأس، سأردها يومًا ما لكني لا أملك الطاقة الكافية، كما أنني اعتدت مزاجك المتقلب نوعًا ما".

نظرت نحوه في النهاية وقالت: "بالمناسبة سبب قدومي الرئيسي هو أنني أردت حقًا تفقدك، هل انت بخير؟ ذلك السحر الأسود الذي تحدثت عنه ثونار يبدو مؤذيًا ناهيك عن قوة الظلام، لقد كنت قريبًا جدًا من البوابة، هل أنت على يقين أن ظهرك لم يتأذَ؟ تعلم أن إصابة كهذه خـ..."

ظل يحدق بوجهها غير آبه بما تقول وقد غرق في أفكاره الخاصة، حادثة هذا الصباح لم تكن فقط منبهًا لحقيقة مشاعره نحوها، بل كانت تذكيرًا شديد بحقيقته هو.

قضاء الوقت مع شخص لا يهابه، شخص اعتاد ’ مزاجه المتقلب’ أنسته أن أكثر ما يبعد الآخرين من حوله حقًا لم يكن مزاجه أو تصرفاته، بل حقيقته.

الحقيقة التي أفزعت القصر بأكمله منذ ثوانٍ.

لا يمكنه تركها تتفقد جسده فطاقة الظلام اندمجت تمامًا معه دون ترك أثر، لكنه على يقين أن نوبة أخرى قادمة في وقت قريب ولذلك عليه أخذ حذره مجددًا.

استيقظ بعيدًا عن افكاره عندما لاحظ تحديقها به بصمت وذراعين معقودين فوق صدرها "ماذا؟" تمتم لتتنهد وتقول "أيمكنني فحصك؟" زم شفتيه وحدق بوجهها لثواني قبل أن يجيب: "لا داعٍ". نهض من مكانه وأمسك قميص ملقى على حافة الأريكة في زاوية الغرفة "أنا بخير تمامًا".

كانت تعرف أن الأمر ليس بهذه السهولة، ولكنها لم تكن تعلم أيضًا كيف تعمل قوة الأريبوس؟ هل تؤذيه أم ان جسده لا يتأثر؟ وأن لم يثر الأمر شكوكها أمام أتريوس سيشك هو بأمر ما فهو ليس بغبي.

"أكانت البوابة بعيدة عنك؟" لم يكن سؤالًا أكثر مما كان كإجابه تحاول منحها له حتى يجد مخرجًا وهذا ما فعله "نعم، لم تمسني طاقتها، وبالنسبة لسحر الأسود فقد أغلقتها ثونار في الوقت المناسب لذلك لا داعِ للقلق".

نزع القميص الذي يرتديه وأدار ظهره نحوها لتتفحصه بعينها كتأكيد على حديثه بالرغم أن الاثنين يعلمان أنه هراء ليس إلا.

"جيد" تمتمت جلنار وابعدت عينها عندما بدأت تشعر ببعض الإحراج.

ارتدى قميصه الجديد وقال: "لا تشغلِ وقتك بهذه الأمور، لديك مهام أكثر أهمية عليك تفقدها" نظرت لوجهه ببعض الضيق ليدحرج عينه ويضيف بابتسامة صغيرة: "لن أعود للنوم، سأخرج أنا أيضًا لمساعدة كلب الملك ذاك".

ابتسمت مجددًا وربتت على كتفه قائلة: "فتى جيد" مسببة عقدة بين حاجبيه.

 "سأذهب لتفقد القصر هنا لمرة أخيرة برفقة مجموعة من الحرس وقائدهم، لنلتقي عند بوابة القصر عندما ننتهي" أومأ بتفهم لتلفت وتخرج من الغرفة.

خفتت ابتسامته وهو يحدق بالباب حيث كانت منذ ثوانٍ. ربما قوة الظلام قد اندمجت مع جسده لأسباب يفهمها، ولكن..

أين بحق الله ذهبت لعنة السحر الأسود؟

حدق بكف يده يحاول فهم لغز جسده، يعلم ان تاريخه مع الساحرات خاصة ساحرات الظلام ليس بتاريخ جيد ولكنه لم يفهم يومًا ما فعله سحرهن بجسده ويزعجه هذا كثيرًا.

"مجموعة من الحرس وقائدهم؟" تمتم فجأة بإدراك وارتفعت عينه نحو الباب قبل أن يغلقها بانزعاج ويزفر بتعب "تبًا" شتم قبل أن يسحب فأسيه من فوق المنضدة ويتجه للخارج لاحقًا بجلنار.

....

"أتتهرب من العمل؟"

أنين متألم هرب من بين شفتيه عندما سحبت ثونار خصلات شعره للخلف ليمسك بمعصمها يبعد يدها عن رأسه "توقفي عن إزعاجي!" حدقت بعينه لثواني قبل أن تتساءل بتعبير بريء "لما علي ذلك؟"

تنهد ودفع يدها بعيدًا قبل أن يدلك البقعة التي سحبتها ثونار للتو.

ابتسمت وأخذت مجلسًا بجواره على الأرض العشبية تلقي بظهرها للخلف نائمة تحدق بالسماء "ألا تتهربين من العمل أيضًا؟" سأل دون أن ينظر نحوها لتزم شفتيها بتفكير لثوانٍ "لا، تركت زوندي مع مجموعة من الحرس لتفقد المبنى من الداخل، وأنهيت أنا وحدي الحديقة الأمامية والمرافق الخارجية والباقِ ستتكفل به القائدة.." سكتت لثواني قبل أن تردف "أنا فقط أسرع منكم جميعًا".

دحرج عينه متمتمًا "متبجحة".

راقبت عينها السماء الصافية وقد عم الصمت بينهما لوهلة وكل ما كانت أذنه تلتقطه هو أصوات النسيم الخفيف الذي يحرك أغصان الأشجار من حولهما بهدوء.

"إذًا.." قطعت ثونار الصمت واتجهت عينها نحوه متسائلة: "هل أبلغت القصر الملكي؟" راقبت تعبيره الذي لم يتغير وعينه الجامدة على نقطة ما بعيدة.

"نعم".

أجاب باختصار مما أثار فضولها أكثر "متى سنذهب؟" سألت ليجيب مجددًا باختصار: "عندما نكون جاهزين". ظلت تراقبه عن كثب بينما تقول: "ستقابل عائلتك، ألست متحمسًا؟" ارتفعت زوايا شفتيها وقد غمرها شعور بالانتصار عندما راقبت الانقباض الخفيف في فكه. لقد عرفت أنه يحارب بشدة لإخفاء مشاعره، وكم كان يغيظها تمكنه من ذلك لدرجة خدعتها.

لم يجب هذه المرة سوى بهمهمة صغيرة لتنهض جالسة وتمدد ذراعيها بكسل "اتساءل كيف سيبدو الأمير الصغير داخل قصره؟ أليس من الجميل أنك تملك حاشية كاملة تحت أمرتك.. يا ولي العهد، ولكن.." مال رأسها وهي تحدق بجانب وجهه وتابعت بنبرة متعجبة "لا تبدو لي متحمسًا جدًا، المشكلة بالقصر؟ أم سكانه؟".

هذه المرة التفت نحوها ونظر لوجهها أخيرًا وكان بإمكانها بوضوح رؤية الغضب في عينه، ولكنه يحارب لكبحه "توقفي عن محاولة العبث هنا وهناك، واعتني بشؤنك ثونار".

أظلمت عينيها بخبث وهي تحدق بعينه عن كثب وقالت: "أوه! ألمست وترًا حساسًا؟" انقبض فكه بقوة هذه المرة وظل يحدق بها، ولكنه لم يتمكن من إنكار ذلك الشعور السيء الذي يراوده..

أراد اللعن وهو يراقب عينها التي تنظر نحوه بفراغ ولسبب ما كان على يقين أن هناك جوانب من شخصية ثونار لم يراها ولم يرغب في رؤيتها، ولكن شيء في طبيعته يحفز هذا الجانب منها بشكل سيء.

"ألا تريد الإفصاح بالأمر؟" ارتفع حاجبه لثواني لسؤالها، ولكنها أردفت مشيرة لصدره تنكزه "ألا تشعر أنك ستنفجر من الداخل؟ لا تخبرني أنك لا تريد الصراخ مفصحًا عما يدور في خلدك؟".

ظل يحدق بعينها، تلك النظرة الخبيثة والنبرة المتلاعبة، لطالما حذره الجميع من شخصية الساحرة الملتوية، ولكن على ما يبدو أن الأمر لم يكن جديد عليه لذلك أمسك بمعصمها بهدوء مبعدًا أصبعها عن صدره ورسم ابتسامته المعتادة التي تصرخ بجاذبيته كأمير وقال بهدوء: "لا فكرة لدي عما تتحدثين، توقفي عن محاولة العبث أيتها الحمقاء".

وتحت نظراتها الجامدة ترك معصمها ونهض من مكانه واقفًا قبل أن يمدد جسده ويقول: "لدينا الكثير لإنجازه، لا تحاولي العبث في الارجاء وقابلينا عند بوابة القصر أيتها الصهباء" تركها والتفتت متجهًا للقصر بينما قال بصوت عالي لتسمعه "سيعجبك كثيرًا القصر الملكي".

ظلت تحدق بظهره بجمود وفك مقبوض بغيظ "أتمازحني؟" تمتمت وهي تحاول السيطرة على انفعالاتها، قضمت أظفر إبهامها ومازلت تحدق بظهره الذي يبتعد أكثر فأكثر "هذا الثبات اللعين يُغيظني، متى ستتوقف عن التظاهر؟".

....

"أنا حقًا أشكرك بشدة، لا أعلم إن لم تكوني هنا ماذا كانت عائلتي لتفعل ضد هذه الاتهامات" ابتسمت جلنار نحو أندريس بينما دحرج يوجين عينه قائلًا: "فهمنا يا رجل، أنت ممتن، لقد بقيت تشكرها لنصف ساعة كاملة".

"ما كان الفرسان ليسمحوا بحدوث أمر سيء لعائلتكم دون إثبات حقيقي لتهم الموجهة للآنسة أركستوراي" أرادت منع ابتسامة السخرية التي كادت ترتسم على شفتيها فهي على يقين أن لا أحد في هذه المجموعة كان ليهتم سوى أوكتيفيان لمحاولة تجنبه أي مشاكل سياسية وزوندي بدافع الشفقة.

"لكن علي الإشادة.." قال محدقًا بوجهها "الطريقة التي تعمل بها قوتك! أنها مبهرة" ابتسمت جلنار ونظرت نحوه قائلة: "شكرًا لك، مازالت أحاول اكتشاف كيفية التعامل معها" همهم يوجين وسخر: "لذلك تدمرين كل ما يقع أمامك" ظلت الابتسامة مرتسمة على وجهها، ولكن انقباض فكها كان واضحًا.

وقفت أمام الحديقة الخلفية تتفقد كمية الضرر الواقعة في المكان، الأشجار ذبلت تمامًا، الحشائش حالت لرماد وكأن إعصار هب ماسحًا معالم الحياة من المكان.

"بوابة لا تكاد تذكر كتلك سببت كل هذا، كيف سيبدو الأمر إذا تمكنوا من استحضار بوابة أكبر؟" تمتم أندريس وهو يتفقد المكان يخالجه شعور مختلط بين الضيق والخوف، ويبدو أنه لم يفصح عن سؤال دار في خلده فحسب، فقد دار ذات السؤال في عقل جلنار وهي تتفحص المكان بعينها.

شعور من القشعريرة هاجم جسدها عندما عادت ذكرى ذلك الرجل مجددًا واقفًا أمامها ومازالت تتذكر جملته التي دبت الرعب بقلبها.

ظنت أنها ما عادت تهاب شيئًا بعد خوضها معركتين شديدتين، ولكن نطق ملك الإريبوس باسمها معلنًا انتظاره لها كان شعورًا آخر من الفزع.

"هل أنتِ بخير؟" أجفلت ما إن هبطت يد يوجين فوق كتفها عندما لاحظ شرودها الواضح وانغماسها في أفكارها، والتي بإمكانه بسهولة استنتاج مدى سوئها من مجرد النظر إلى العقدة الضحمة بين حاجبيها.

"لا أظن ذلك" تمتمت متجنبة الكذب عليه ليزفر ويحرك يده برفق فوق ظهرها قائلًا: "لا تدعِ القلق ينال نصيبه منك، أسوأ ما قد يحدث ستتحولين لجرة من الرماد، لا أظن الأمر مؤلم، سيكون سريعًا" تجمدت في مكانها والتفتت نحوه بنظرة خالية من الحياة "لا تقلقِ، سأحرص على الحفاظ على رمادك في جرة غالية الثمن، فقط ادعي الرب ألا تستخدمه واندر بديلًا لأحد بهاراتها الغريبة".

ظلت تحدق بوجهه تريد طريقة فعالة لإسكات فهمه "فقط إن كان كارولوس هنا" زمجرت ليرفع زوايا شفتيه بغرور قائلًا: "لا تتأملي كثيرًا فقد أصبح ذو الحراشف صديقًا لي".

"أهناك شيء هنا؟" التفتت بفزع لرأس أندريس القريب جدًا منها بينما يوجه أنظاره حيث تنظر ظنًا منه أن هناك ما يشد انتباهها "نعم.. هناك شبح أتحدث معه".

ارتفع حاجبه والتفت نحوها "هاها.. لست صبيًا في الخامسة، لا تسخرِ مني" ابتسمت نحوه بينما تساءلت: كم مرة ظن الآخرون أنها تسخر بينما كانت تقول الحقيقة.

تنهدت جلنار فجأة قبل أن تمد ذراعها بسرعة بعد أن اتخذت هيئة صخرية لتقويتها والتقطت الفأس الذي كان يحلق باتجاه مؤخرة رأس أندريس مباشرة.

اتسعت عين الأخير عندما التفت بسرعة ما إن التقطت جلنار الفأس ولم يكن مذهولًا بالفأس أكثر من ذهوله بخفة الرمية التي لم يشعر بها قادمة نحوه رغم مهاراته وشدة حواسه.

"رميته خطأً أيضًا هذه المرة؟"

سخرت ملتفته نحوه ليميل رأسه ويقول بكل براءة: "أليس هذا واضحًا؟". اختفت تعبير البراءة عن وجهه ليتحول لآخر جامد ويقول: "أهناك أي أثر لذات لسحر أسود؟". التفتت تنظر نحو الحقل قبل أن تتمتم: "لست على يقين" أعادت أنظارها نحوه مجددًا قائلة: "سأجري فحصًا سريعًا".

ألقت فأسه في الهواء نحوه ليلتقطه "وتوقف عن التلويح به وكأنه لعبة من البلاستيك". دحرج عينه وابتسامة جانبية ارتسمت على شفتيه "بالطبع أمي".

ظل أندريس يبدل عينه بينهم وبين الفأس الذي كان يظن أن جزء من السحر يسري به لخفة رميته رغم ثقله، ولكنه لم يشعر بقدر ضئيل حتى من السحر فقد شاهد أسلحة سحرية من قبل وهذا بالتأكيد مجرد فأس عادي.

شعر بقشعريرة باردة تجري على طول ظهره عندما التقط تحديق أتريوس الجامد به دون أن يطرف جفنه وهذا ما دفعه للعن بين أنفاسه فهو يكره هذا الشعور بالرهبة الذي يولده هذا الرجل داخله، مكانته كرئيس الحرس تدفع كبريائه للغليان في مواجهة رجل كهذا.

في المقابل لم تعر جلنار بالًا لمباراة التحديق القابعة خلفها وقد أغلقت عينها في محاولة لفحص المكان وعلى عكسها ظل يوجين مستمتعًا وهو يراقب الاثنين بينما يراهن على الخاسر بينهما.

لم يكن أندريس على علم بماضي شقيقته المرتبط بالرجل الواقف أمامه، ولكن حدسه كان يخبره منذ البداية أن شقيقته تتصرف بطريقة مختلفة منذ ظهوره في القصر وهذا لم يساعده كثيرًا في رسم صورة جيدة لأتريوس.

"أتنوي التحديق كثيرًا؟" بصق أندريس سؤاله بانزعاج لتتسع ابتسامة يوجين الذي التفت بسرعة لأتريوس متمتمًا: "لقد منحته الفتيل الذي يريد أيها الأحمق" وقد كان محقًا فزوايا شفتي أتريوس ارتفعت ارتفاعًا طفيفًا باستمتاع وقد أجاب: "أيزعجك الأمر أيتها الصغيرة؟".

كان أندريس يشعر حقًا بالانزعاج ولم يكن شعورًا وليد اللحظة، بل كان يراوده منذ مقابلة أتريوس وقد أخذ ينمو أكثر وأكثر ويبدو أن يصل لأوجه "لا أعلم ما مشكلتك معي يا رجل، لكني أكره حقًا الرجال أمثالك، لذا لـ.." قاطعه أتريوس مثيرًا حنقه أكثر "لا أهتم بما تفضل أو تكره، لست هنا في نية مواعدتك".

انقبض فك أندريس وقد طحن أسنانه ضد بعضها بغيظ أراد كتمه بينما فرك يوجين كفيه وهو ينتظر قتالًا يشب بين الاثنين في أي لحظة.

تقدم أندريس خطوتين حتى أصبح الفاصل بينه وبين أتريوس قدم واحد ونظر لعينه باستياء قائلًا: "أنت على أرض عائلة ملكية، أنصحك بمعرفة مقامك جيدًا" اتسعت ابتسامة أتريوس ومال نحوه هامسًا: "وأنا هنا لحماية عائلتك الضعيفة، لذلك أغلق فمك".

"أيها الـ.." كان من الواضح أن القادم مليء بإهانات لن تفعل شيء سوى دفع الوضع لتفاقم، ولكن ما أوقف الاثنين هو ملاحظتهما أن جلنار اختفت فجأة من جوارهما.

"أين بحق اللـ.." همس أتريوس وهو يبحث حوله قبل أن يلتفت للجهة الأخرى عندما لاحظها أندريس أيضًا "جلنار!" صاح مناديًا باسمها، ولكنها لوحت بيدها هاتفة "إن أردتما تدمير باق الحديقة وتحويل بعضكما للحم مشوي ففعلاه بعيد عني، أنا متعبة بما فيه الكفاية".

ارتفع حاجب أتريوس باندهاش واضح فقد توقع تدخلها مباشرة، ولكن انسحابها دون أن تنبس ببنت شفة هو أغرب بالنسبة له.

تنهد وقد ارتسمت ابتسامة خفيفة على وجهه بينما أعاد فأسه لمكانه مقررًا أن يتبعها حيث البوابة الرئيسية "أتتصرف هكذا عادة؟" تمتم أندريس محدقًا بظهر جلنار الذي يبتعد كل دقيقة "لا يوجد ’عادةً’ معها، لا يمكنك أن تحزر أبدًا" أجاب أتريوس مغادرًا.

"ألم تكن تكرهني منذ دقيقة؟" لم يتمالك أندريس استنكاره لتهرب ضحكة صغيرة من شفتي أتريوس ويجيب "أنا أكره الجميع، ولكن إزعاج الآخرين أكثر تسلية، عليك تجربته من وقت لآخر عوضًا عن الوقوع فيه".

ظل واقفًا مكانه يحدق بهما بذهول "أنهم حفنة مجانين".

تحركت جلنار نحو البوابة الرئيسية حيث كان اتفق الجميع على الالتقاء، تأكدت بشكل تام أن المكان خالٍ من أي طاقة سيئة قد تسبب الأذية لأحدهم وأرادت بشدة الخروج من هذا المكان والعودة مجددًا للإلترانيوس.

كان من الواضح أن الغالبية قد سبقوهم حيث البوابة ولم يبقَ سوى أوكتيفيان وجوزفين الذي توقف كلاهما مع أركتسوراي ينقشان ما يعلمه الرب وحده.

حاولت جلنار قدر الإمكان تجاهلهم قبل أن تتورط في محادثة مليئة بالنبل واللباقة لن تفعل شيء سوى انهاكها، ولكن خطواتها تباطأت عندما لمحت الشخص المنعزل في زاوية المشهد، شاحبة الوجه متعبة الجسد.

تراقب من مكانها المشهد وعينها معلقة بالسائر خلف جلنار.

وقفت مكانها لثواني تشعر بالتردد، ولكنها حسمت أمرها والتفتت متجهة نحو فينسيا للمرة الأخيرة في حياتها كما تأمل.

عين الأخيرة التقطت الجسد المتجه نحوها لذلك عدلت من وقفتها ودون حاجة للالتفات نحو خادمتها المرافقة لها، إشارة من يدها كانت كفيلة لدفعها للانحناء باحترام والابتعاد بقدر كافٍ لخلق مساحة شخصية لسيدتها دون أن تبعد عينها حرصًا على سلامة فينسيا.

"أيًا يكن ما تريدين التفاخر به في وجهي، فلست مهتمة بالاستماع له" لم تتمكن جلنار من منع ابتسامتها بينما تقحم كلتا يديها في جيب معطفها "ما كنتِ أبعدت خادمتك إن لم تكوني مهتمة". حدقت بها ببعض الانزعاج والازدراء في الوقت ذاته لكنا لم تتمكن من الرد سوى بـ " لا تنتظري مني شكرًا أيضًا".

وقفت جلنار تتفحص وجهها الذي فقد لونه وشفتيها الجافتان بسبب تقيؤها المستمر ولم تشعر سوى بالشفقة لحال الفتاة.

"لا أحب عبارات الشكر أيضًا" قالت جلنار صادقة فلطالما شعرت بالارتباك كلما شكرها أحدهم فلم يكن شيء معتاد في حياتها.

"لماذا أنتِ هنـ.."

"ما تريدين فعله ليس بحل".

تجمدت فينسيا بينما تحدق بنظرة جلنار الجادة وبعيد عنهما وقف يوجين يبدل أنظاره بينهم متسائلًا عما تتحدثان بحق الإله.

"ماذا تقصدين، لست في حا.." قاطعتها جلنار مجددًا مدركة أن لا وقت تملكه لسماع نكرانها المستمر فقد جاءت لإلقاء ما في جعبتها حتى لا يلاحقها شعور الذنب بعد خروجها من هنا..

"وجودك في الحديقة صباحًا ليس صدفة فينسيا، لست حمقاء حتى أصدق أنك قصدت المكان بهدف التنزه" قابلها الصمت وهذا كان أفضل حتى تتمكن من اختصار حديثها قدر الإمكان.

" لم تمانعي تهمة الخيانة كل ما أردتِ ألا تمس عائلتك بأذى ولكن.." بللت جلنار شفتيها والتفتت بشكل سريع نحو الفرسان المجتمعين تلقي بنظرة نحو أتريوس المستند على السور وعينه معلقة بهما.

"أعتذر ولكنني لن أقوم بالتخفيف عنك بحديثي، ما قمتي به بحق هذا الرجل هو أمر فظيع، لا يمكنني التظاهر بأنني أعرفه كظهر يدي ولكن بإمكاني رؤية أنك منحته شعورًا من الأمان، ربما من حقك الهرب ولكن تسليم حياته للخطر هو فعل جبان، أنت ..."

قُطِعت جلنار هذه المرة عندما تقدمت نحوها فينسيا وبنظرة قاسية قالت: "لست ذات المرأة، لقد كنت خائفة ولم أكن أملك ربع قوتكِ لدفاع عن نفسي.."

"أتظنين أن قوتي هي ما تمنحني هذه الشجاعة؟ نعم أنا قادرة على قتال أتريوس ولكن أتظنني ندً له؟".

ضحكة ساخرة انسابت من بين شفتيها مجيبة "لا تتذاكِ، أنتِ ابنة التوبـ.."

"مازالت حمقاء لا تعرف كيف تسيطر حتى على قوتها، أما أتريوس.. مازالت يدي ترتجف في كل مرة وقفت في وجهه ولكني لم أهرب مرة واحده، لأنني على أتم الثقة أنه لن يقتلني فينسيا، هذا الرجل حاول بكل ما يملك من قوة تحطيمي حتى ابتعد عنه ولكنه لم يتركني للموت مرة". كانت جلنار على يقين أن شبح ما كان ليصرخ ساخرًا وسيقوم بتذكيرها بمنحدر معين.

"لكنك لم تتغيري فينسيا" اتسعت عين الأخير وهي تشعر بديها ترتجف بقوة أمام ثبات نبرة جلنار، تقدمت جلنار خطوة نحوها وقالت بحدة "لازلت ذات المرأة الجبانة التي تبحث عن أسهل مهرب حتى تحمي نفسها من شعور الخوف والذنب".

بدأت أنفاسها تتلاحق بسرعة بينما كاد فستانها يتمزق لشدة تمسكها به وباتت على يقين أن الجزء الصريح من جلنار هو أكثر مالا تريد مواجهته.

"محاولاتك لقتل نفسك لن تجدي سوى بإيذاء المزيد ممن يهتمون بأمرك، لديك عائلة على استعداد لتخلي عن كل شيء لأجل تبرئة أسمك، لديك شقيق لم يتردد في إلقاء نفسه أمام الخطر لحمايتك، شقيق يستحق العيش لأجله لذلك.."

هدأت حدت صوتها ونظراتها وقالت: "جربي العيش لأجل هذه اللحظات، لزلت تملكين شعورك واحساسك بالذنب وهذا كفيل لإثبات أنك لست شخص سيء في نهاية الأمر، لذلك توقفي عن الهرب للحظة، وحاولي مواجهة جميع تلك الأمور العالقة في حياتك واحدة تل الأخرى".

لا تعلم في هذه اللحظة أيهما الأسوأ..

استماعها لمحاضرة أخلاقية من أكثر أمرأه تمقتها في هذه اللحظة أم شعور هذه المرأة بالشفقة على حالها عوضًا عن الكراهية.

"شكرًا لاستضافتكم لنا".

أنهت جلنار حديثها عندما لاحظت أن الغالبية بدأت تلاحظ وقوفهما معًا وخاصة يوجين الذي تقدم نحوهما.

"أتمنى ألا تتقابل طرقنا مجددًا أبدًا" كانت هذه جملة فينسيا الأخير والتي تمكنت من إخراجها بعد عن حاربت الغصة التي كانت تتصاعد وتحكم قبضتها حول حلقها.

لم تبتسم جلنار فلازالت تمقت فينسيا، ولكنها لا تحمل ضغينة لذلك أومأت بكل هدوء وهي ملتفته "أتمنى الأمر ذاته".

وبرحيلها سمحت فينسيا لدموعها بالتحرر حتى أصبحت رؤيتها مشوشة بالكامل وبالكاد بإمكانها رؤية هيئة أتريوس الذي اعتدلت وقفته ما إن لاحظ تحرك جلنار نحوهم "تبًا لكلاكما" همست قبل أن تلتفت مكفكفة دموعها مهرولة لتعود أدراجها.

" ما الأمر مع هذ اللقاء الدرامي؟" قابلها سؤال يوجين الساخر بينما عينه معلقة بجسد فينسيا المنسحبة من المكان "أردت التبجح بإنقاذي لحياتها" أجابت ساخرة على مضض ورسمت ابتسامة سريعة عندما لاحظت أنظار كل من جوزفين وأوكتيفيان اللذين ينتظرانها مع البقية.

"أهناك مشكلة؟" ألقى أوكتيفيان سؤالًا والشك واضح في صوته وملامحه تصرخ بأنه متأكد من وجود واحدة، ولكنه ألقى السؤال حتى لا يتم اتهامه بالتزمت.

"كل شيء على ما يرام" أجابت جلنار بكل أرياحية مما دفع الآخر بالتنهد يائسًا من الحصول على أي إجابات صريحة لذلك غير الموضوع ووجه أنظاره للجميع متحدثًا: "وفرت لنا العائلة الملكية مركبة خاصة لنقلنا جميعًا لقصرها، سنتجه إلى هناك، ونقابل الملك وسنجيب على قدر السؤال ونعود أدرجنا للإلترانيوس الليلة دون أي مشاكل، أهذا مفهوم؟"

كان من الواضح أن أهم نقطة أراد إيضاحها في جملته كلها هي: لا مشاكل لذلك نظر كل واحد للآخر بينما تثاءب أتريوس بتململ.

تنهد مدركًا أنه يحدث نفسه، ولكنه صلى أن تمر هذه الزيارة على خير فالأميرة متوترة بما فيه الكفاية من النزاعات الداخلية ولن تتمالك نفسها إن عاد فرسانها مع نزاعات خارجية أيضًا.

"بالمناسبة.." التفت الجميع لجوزفين الذي نظر لجلنار موجهًا حديثه "اعطاني أندريس عنوان ذلك المدرب الذي تحدثي عنه، لذلك أظن أن علينا التوجه نحوه قبل العودة" أشار بجملته الأخير نحو أوكتيفيان الذي أومأ دون ممانعة بينما لمعت عين جلنار وهي تنظر لزوندي بسعادة، ولكن الأخير بدى قلقَا نوعًا ما ولكنه لم يمانع اعطاء ابتسامة هادئة لجلنار حتى لا يحبط توقعاتها.

بعد شكر ووداع رسمي أخير من رئيس عائلة أركستوراي وابنه، غادر الفرسان أرض عائلة أركستوراي متجهين للقصر الملكي.

هذه المرة لم يكنوا في حاجة للانقسام فكانت المركبة التي أرسلها القصر الملكي كبيرة بما فيه الكفاية لتتسع لهم جميعًا وبالرغم من هذا شعرت جلنار أنه كان قرار سيء فوجودهم السبعة في مكان واحد في صمت كان مثيرًا لتوتر.

لم يكن عليها القلق كثيرًا فما لبثوا حتى كسرت ثونار هذا الصمت تخبر من يستمع منهم عمّا حدث خلال رحلة عودتهم السريعة هي و أوكتيفيان إلى الإلترانيوس.

راقبتهم جلنار بصمت وقد أرادت في بعض اللحظات مشاركة الحديث، ولكن شعور الدوار وألم الرأس لم يترك مجالًا لذلك، كل ما كان بإمكانها فعله هو الاسترخاء في مقعدها باهض الثمن والتحديق بالنافذ بصمت تنتظر خفوت الألم وحده.

رعشة مرت بجسدها وبدأت تشعر بالبرودة تسيطر على أطرافها بسرعة مرعبة، أرادت تحريك جسدها ولكنه بدا في هذه اللحظة ثقيلًا بشكل مرعب.

نظرت حولها وقد انفرجت شفتيها في محاولة لطلب المساعدة، ولكن كل ما تمكنت من فعله هو الإفراج عن نفسًا تشكل كبخار أمامها.

عينها بكسل تابعت حركة الفرسان حولها وشيء فشيء كان من الواضح ملاحظتهم لخطب ما، وفي هذه اللحظة اجتاحها الذعر بينما بدا كل واحد فيهم عاجز فجأة عن التنفس، أمسك كل واحد بعنقه يتلوى بألم وكان من الواضح أن الجميع يعاني من الخطب نفسه.

تفحصت عينها الجميع بخمول ولكن صدرها كان يهبط ويرتفع بسرعة مفزعة لشدة خوفها وهي تراقب بعجز عروقهم تتحول للون أسود قاتم ويتصاعد حول رقابهم حتى وجوههم حتى بدأوا يتساقطوا واحد تلو الآخر.

عينها اتجهت نحو أتريوس الذي كان يحارب لأجل نفس واحد ممسكًا بعنقه بينما عينه ارتفعت نحوها بسرعة، حمراء كالدماء قبل أن تتحول للون أسود وأخر ما نطقه بصعوبة كان "اهربي".

بدا وكأن الجو كله تحول فالغيوم السوداء أحاطتهم وبدأت جذور سوداء عفنة تتربص بالعربة من كل مكان وبينما عين جلنار معلقة بسقف العربة وجفونها ثقيلة تكاد تغلق شعرت بوجوده..

مجددًا..

ارتجفت يدها بجنون وبكل ما تملك من قوة تمالكت نفسها حتى تبقي عينها مفتوحة واتجهت نحو المقعد أمامها بينما رأسها لازال ملقى للخلف لا تقوى على تحريكه.

وقد كانت محقة.

بكل هدوء جلس أمامها يحدق بعينها ببرود يراقب معانتها بصمت، لم تتمكن من إخراج صوتها وإن تمكنت من ذلك لما تمكنت من نطق كلمة بفعل الخوف الذي ألجم لسانها.

العجز الذي تشعر به كان مرعبًا، لا يمكنها الشعور بطاقتها لا يمكنها الشعور بجسدها ولا يمكنها حتى الدفاع عن نفسها وجميع من تهتم لأمرهم يفارقون الحياة بجوارها، إنها فقط مسألة وقت.

"خائفة؟".

صوته كان رخيمًا وقوي ذو نبرة هادئة ولكن في هذه اللحظة شعرت جلنار أن سماع صوته لوحده يثير فزعها.

"أعرف كم أن الأمر مرهق، فتاة بشرية مثلك.." صمت لوهلة يتفحصها بينما كلماته كان ينطقها ببطء ورزانه وكأنه يأخذ كامل وقته غير آبه بما يجري حوله.

"فتاة مثلك لا يمكنها تحمل هذا القدر من المسؤولية، هذا القدر من القوة لا يجب أن يقع على عاتقك أيتها المسكينة". كانت جلنار تحارب في هذه اللحظة حتى تتحرك، أرادت استحضار ولو جزء صغير من قوتها ولكن كانت أشبه بجماد فارغ، لا يمكنها التحرك إلا بساعدة من مالكها وكان هذا الشعور مقيت.

"أنتم البشر، ألا تظنين مثلي أنكم مثيرون للشفقة؟" أراح ظهره على المقعد بينما يحدق بأطراف أصابعه وإبهامه يمر على كل واحدة منهم "لا تتوقفون عن الركض ظنًا منكم بوجود نهاية، وجود هدف تعيشون لأجله، تضحون بكل ما تملكون في محاولة للوصول، ولكن ما إن يصل أحدكم لما يريد ما يلبث حتى يشعر بالفراغ، وكأن ما أراد وضحى لأجله طيلة عمره لم يكن الهدف بل.."

نظر نحوها مميلًا برأسها متابعًا: "بل الشعور بوجود شيء يستحق العمل لأجله! من المثير للشفقة رؤيتكم تحاولون طيلة الوقت كالحشرات الصغير دون توقف ولكن لأجل ماذا؟" وقف على قدميه وتقدم نحو جلنار حتى أصبحت تنظر لوجهه عوضًا عن سقف العربة..

أمال برأسه نحوها يحدق بوجهها وهمس: "لأجل شعور وهمي بالشبع، ولكن الحقيقة هي أنكم لا تشبعون أبدًا جلنار.." لمست أنامله وجنتها برقة ومكان كل لمسة شعرت جلنار وكأن بشرتها تحترق من شدة البرودة.

"رؤيتك تحاولين تثير اشمئزازي، مُنحتي قوة ليست بملكك، ليس هذا هو ما خُلقت لأجله، لذلك توقفي عن الركض فأنا وأنت نعلم كم يسكن الجبن قلبك أيتها الصغيرة، توقفي وامنحيني كل شيْ.."

ارتفعت انفاسها واتسعت عينها وهي تحدق بعينه التي تحولت للون أسود وفي هذه اللحظة صوته الهادئ ووتيرة نبرته الرزينة كانت تصبح أسوء وأعلى وأشرس.

بدا الأمر لها وكأنها تستمع لأول مرة لمعزوفة بحيرة البجع، هذا الرجل بدا وكأنه المعزوفة حية ولطالما أثارت هذه المقطوعة فزعها تمامًا مثله.. لوكيان.

يده اتجهت نحو منتصف صدرها ووجه المسترخي تحول تمامًا لآخر غاضب ومهتاج "أنت السبب، جميعهم سيموتون لأنك لستِ أهلًا لما تفعلين".

دموعها تساقطت بغزارة وعينها اتجهت ببطء نحو أصدقاءها الذي فجأة علا أنينهم قبل أن ترتفع رؤوسهم نحوها تحدق بها أعينهم السوداء الدامية وقد وضع كل واحد فيهم يده فوق صدره، وقد تبدلت قلوبهم بفراغ أجوف بالكامل.

"فقط امنحيني قلبك" صرخ بها بغضب قبل أن تقتحم يده صدرها محاولًا نزع قلبها من مكانه.

الألم كان لا مثيل له في هذه اللحظة وهذا ما دفع جسدها للانتفاض بشدة وغادرت شفتيها شهقة قوية.

وخلال ثوانٍ من الألم غير المسبوق تغير كل شيء واختفى الألم فجأة وكأنه لم يصبها حتى. قبضتها اشدت حول قميصها حيث يقع قلبها تشعر به بكاد ينفجر لشدة خفقانه بينما تحاول التقاط انفاسها بصعوبة منحنية تحدق بأرضية العربة بأعين بدأت تملأها الدموع.

"جلنار.. هل أنتِ بخير؟" ارتفع رأسها بسرعة نحو الاثنين الذين نطقا في الوقت ذاته.

كل من أوكتيفيان ويوجين وقفا أمامها أحدهم نظرات القلق واضحة صريحة على وجهه والآخر فضحته العقدة الضخمة بين حاجبيه.

ابتلعت تحاول ترطيب حلقها الذي جف تمامًا وعينها تفحصت المكان بسرعة تبحث عن الجميع "لقد ترجل الجميع من العربة، يبدو أنك غطتِ في النوم خلال رحلتنا" فسر أوكتيفيان ما إن لاحظ نظراتها.

حلم!

أدركت ما حدث ومع هذا الإدراك بدأت في الهدوء شيء فشيء وخف ارتجاف جسدها "جلنار، تبدين في حاجة لرا.." قاطعته وقد أومأت برأسها بهدوء قائلة: "لا بأس، كان حلم سيء ليس إلا، دعنا ننتهي من هذه المهمة".

بصمت حدق بها أوكتيفيان للحظات ولا يمكنه نكران شعوره ببعض التعاطف معها، فقد بدت متعبة وفزعة واللون الأسود حول عينها يصبح مع الوقت أكثر وضوحًا.

لكنه زم شفتيه وأومأ بتفهم وقال: "الجميع ينتظرك في الخارج إذًا" قبل أن يخرج تاركًا لها مساحة خاصة ولكنه شعر برغبة في صفع نفسه. في كل مرة يشعر برغبته في التعاطف مع أحدهم، في قول شيء لطيف وداعم، يجد نفسه ينسحب بهدوء من المكان تاركًا من حوله ليتعاملوا مع مشاكلهم الخاصة.

"تبًا" شتم محاولًا التملص من شعور الذنب، ولكن عينه التقطت الشخص المتجه للعربة وهذا دفعه للتنهد براحة فهو يعلم أن الاثنين يعرفان بطريقة غريبة كيف يتواصلان مع بعضهما.

في ذات اللحظة أرادت جلنار الإجابة على أسئلة يوجين القلقة التي لم يفصح عنها بعد ولكن أوقفها اقتحام أتريوس العربية وقبل أن تفتح شفتيها قال بنبرة لا تراجع فيها "عليك الراحة لبعض الوقت وهذا ليس طلبًا، ملكهم في اجتماع ما مما يعني أننا سننتظر لبعض ساعات مملة، سيحصل جوزفين على غرفة لأجلك".

أرادت المعارضة كرد فعل تلقائي، ولكنه كان محقًا، إن كانت كوابيس كتلك ستلاحقها لقلة نومها فمن الأفضل لها النوم ولو لساعة "إن سمعت لا كإجابة فأقسم أنني سألقي بك فوق كتفي حتى داخل القصر" حدقت به بانزعاج ونهضت متجهة لخارج العربة "لم أكن سأعترض أيها الهمجي". ابتسم برضى بينما اتكأت على كتفه وقفزت خارج العربة التي لم تستقر تمامًا فوق الأرضية.

"انظروا من استيقظ.." صاحت ثونار بسخرية وكأنها تحادث طفلًا ممازحة جلنار لتدحرج الأخيرة عينها "لم أحظَ حتى بساعة من النوم منذ يوم أمس" تذمرت جلنار مبررة لنفسها "لهذا تبدين كشبح أكثر مني شخصيًا" علق يوحين بغير رضى مكتفًا ذراعيه فوق صدره بانزعاج.

"أعطيت الأوامر سابقًا لتجهيز غرفة خاصة بك لتحصلي على القدر الذي تحتاجين من الراحة، هناك اجتماع مهم يدور في القصر لذلك لا تفكري في الأمر كثيرًا واحصلي على بعض النوم حتى انتهائه" ربت جوزفين على كتفها بتعاطف واضح وابتسامة صغيرة في محاولة ليشعرها بالراحة.

التفت ينظر لبوابة القصر الضخمة وقد تلاشت ابتسامته تدريجيًا. الذكريات التي تدفق داخل رأسه في هذه اللحظة كانت مزعجة وكأنها تزيد الخناق حوله وشعر وكأن وقتًا طويلًا قد مر على آخر مرة خطت قدمه أسوار هذه القلعة.

كان من المذهل كيف تختلف رؤية الأشخاص للأماكن ذاتها اعتمادًا على ذكرياتهم وأراءهم. فقد وقف كل من زوندي ووندر يحدقان بطول الأسوار وضخامة أبراج القصر العالية بكل انبهار، يشعر كل منهم بسعادة وذهول بالغ لتمكنهم من رؤية قصر عائلة أورال المالكة للمملكة كلها.

ولكن في ذات اللحظة كان القصر في نظر جوزفين أشبه ببعض الحجارة المتماسكة التي تخفي خلفها هالة سوداء قبيحة، في كل مرة يعود لهذا المكان يشعر بموجة من الكراهية تغمره دون أدنى تحكم بمشاعره.

تقدم ليتبعه الجميع محترمين مكانته كولي للعرش في هذا القصر وما إن خطت قدمهم داخل الأسوار تبعهم انحناء الحرس جميعًا باحترام، بدا للجميع وكأن ليس فقط شخصية جوزفين بل الهالة التي تحيطه بالكامل اختلفت ولم يكن الأمر يبث على الراحة إطلاقًا.

اصطف مجموعة كبيرة من الخدم والحرس على طول الطريق من الحديقة الواسعة الضخمة حتى بوابة القصر الرئيسي.

جميعهم انحنوا باحترام كبير ولم يرتفع رأس واحد فيهم بينما يمر جوزفين برفقته الآخرون.

كان الفرسان يراقبون الأمر ببعض الترقب والدهشة، فيبدو أن شخصية جوزفين أنستهم نوعًا ما أنه أمير مملكة كاملة وليس مجرد شخص عادي كبقيتهم.

توقف جوزفين أمام الشخصين اللذين ترأسا هذه المجموعة الضخمة من الرؤوس المنحنية وحدق بكليهما ولم يجرؤ واحد فيهم على رفع رأسه حتى سمح لهم جوزفين بصوت جهوري قائلًا: "بإمكانكم التصرف براحة".

ارتفعت ظهور الخدم والحرس جميعًا دفعة واحدة مثيرة فزع كل من ثونار وزوندي وواندر بينما راقب البقية المشهد بفضول.

ظلت أعين الجميع ملتصقة بالأرضية ولم يحاول خادم أو خادمة واحدة رفع عينه لتلصص بفضول، الوحيدين اللذين قابلا نظرات جوزفين كان قائدة الحرس الملكي دايلن كريال جان ورئيس الخدم إلياروس رافييل جان.

"كم يسعدنا ويشرفنا عودة جلالة وريث العرش للقصر الملكي، إنه لشرف لنا سيدي" ببالغ الخضوع والطاعة رحبت قائدة الحرس بجوزفين قبل أن تنقل أنظارها للفرسان ملحقة بعبارتها "يشرفنا الاعتناء وحماية ضيوف سموه".

أومأ جوزفين برأسه بهدوء ليعرب رئيس الخدم عن ترحابه بعبارات مماثله ولكن بنبرة خالية من أي تعبير أو عاطفة.

"لقد تم تجهيز غرف خاصة للضيوف إن كان أحدهم في حاجة لراحة" قال إلياروس لينظر أوكتيفيان نحو جوزفين ويهمس بسرعة قبل أن تلاحظه المقصودة "لسنا بحاجة سوى لواحدة".

"قوموا بالتأكد من سلامة أحد أجنحة قسم الضيوف من أي خلل وحمايته بشكل كامل سيد وسيدة جان، السيدة روسيل في حاجة لقسط من الراحة لذلك ليتأكد كلاكما من ان تحصل على كل ما هي في حاجة له". أومأ الإثنين في الوقت ذاته قائلين في صوت واحد "سمعًا وطاعة".

"حسنًا، ليحاول أحدكم أقناعي أن كل هذا الاحترام فقط لأجل هذا المهرج زير النساء؟!" كان بإمكان جلنار تفهم دهشة يوجين ولكنها في ذات الوقت كانت تتذكر تلك المرات القليلة التي لاحظت تغير شخصية جوزفين الغير ملحوظ، ولسبب ما كانت شبه متأكدة أنها الآن تقف في المكان المناسب الذي يحمل بين طياته السبب.

ولكنها لا تريد التورط، لقد تورطت بما فيه الكفاية مع حياة هؤلاء الفرسان الشخصية ولكن هذه المرة يبدو الأمر سيء وعميق لدرجة تثير الخوف، شيء في هالة جوزفين، تعبيره، نبرته وطريقة تعامله منذ أن قرروا المجيء لهذا القصر تنذرها أن ما شهدته ليس سوى السطح الذي يتلألأ وكلما ابتعدت كلما وجدت نفسها تغرق في أعماق أكثر ظلمة وحلكة.

"ستتكفل كل من الآنستين ماري و جارلين بطلبات ضيفة سموك وباق الخدم سيكونون تحت أمرة سموك وتحت خدمة ضيوفك". بكل احترام قال إلياروس قبل أن تنطلق خادمتين بسرعة واقفتين ولم ترتفع رأس ولا واحدة فيهما لتنظران نحو جوزفين.

"هذا كثيرًا جدًا، بإمكان فقط أحدهم إرشادي" مالت جلنار نحو جوزفين هامسة ببعض التوتر فلا يعجبها حقًا الجو العام لكل هذا.

التفت جوزفين نصف التفاته واضعًا ابتسامته الجانبية الصغيرة قائلًا: "لا مشكلة في الحصول على بعض الدلال، جلنار". وجدت نفسها تتنفس براحة فجأة عندما شعرت أنها تتحدث مع جوزفين المعتاد وهذا دفعها للشعور ببعض الطمأنينة لذلك ابتسمت وأومأت باستسلام.

اتسعت عين قائدة الحرس لثواني عندما سمعت أسمها وتمكنت من رؤية وجهها على الحقيقة للمرة الأولى.

لم تكن الوحيدة فأغلب الموجودين حاربوا الرغبة الضخمة في رفع أعينهم والتحديق ما إن سمعوا أسم المرأة التي لم يتسنَ لهم رؤية وجهها سوى مرة واحدة على شاشات البث العملاقة.

"شكرًا للاعتناء بنا" احنت جلنار رأسها بخفة معبرة عن امتنانها لتتسع عين الخادمتين بصدمة ويحدق بها كل من إلياروس ودايلن بتفاجؤ.

"أنه واجبنا" نطقوا جميعًا في نفس واحد مثيرين فزعها ولكنها تمالكت تعبير وجهها وظلت متمسكة بابتسامتها الصغيرة.

في النهاية دُعي الجميع لداخل القصر والذي كان لا يقل فخامة عن أي قصر ملكي رأته جلنار، لم يتسنَ لها تفحص الحديقة جيدًا ولكن مما رأت حتى الآن فكانت مزهرة بجميع أنواع النباتات والزهور ذات الأشكال الخلابة وكان كلا الجانبين يتخللهما تماثيل منحوتة ببراعة مذهلة.

الجدران الخارجية كانت مغطاة بالحجر الكريمي الذي ينم على مدى الثروة التي كلفها قصر كهذا، والنوافذ كانت ضخمة ذات زجاج لامع واعمدة رخامية عديدة.

القاعات من الداخل كانت فسيحة مرتفعة الأسقف التي تدلت منه على بعد كل مئة متر ثُريا ضخمة ذات زينة متلألئة وكأنها مرصعة بالألماس. أما الأرضية فغطاها الرخام الفاخر والمزخرف برسوميات غير عشوائية البتة فقد شعرت جلنار لوهلة أنها داخل جولة في أحد المتاحف الفنية وقد حمل كل قسم من الأرضية رسوم ذات معاني وقصص تراثية ربما.

الجدران جميعها زينت بالنوافذ ذات الإطارات المزخرفة والمنحوتة ببراعة، وبنعومة انزاحت الستائر الحمراء المخملية سامحة لضوء الشمس بالمرور والانتشار داخل المكان، ولم تتوقف اللوحات الفنية أو التماثيل الصغيرة من الظهور في كل مكان.

وفي الطرقات انتشر السجاد الفاخر الذي يطابق لونه الأحمر لون الستائر في المكان، ذو خامة ناعمة يمنح الدفء للقاعة.

توقف رئيس الخدم عند مفترق الممرات وقال: "سترشد الخادمتان السيدة لجناحها الخاص وسأرشد سموك والبقية لمنطقة الضيافة الرئيسية" أومأ جوزفين بتفهم والتفت لجلنار قائلًا: "خذي القدر الذي تحتاجين من الراحة، لسنا في عجلة من أمرنا" وعلى الرغم من تفهمه وإصراره، شيء ما في تعبير وجهه كان يصرخ أنه أكثر شخص في حاجة للخروج من هنا على وجه السرعة.

كانت جلنار تشعر بالسوء لترك الجميع خاصة مع شعور عدم الراحة الذي يراودها كلما تحدث معها جوزفين ولكنها في الوقت ذاته كانت تقاوم رغبة إلقاء جسدها فوق أحد الأرائك والاستغراق في النوم.

"لا تقلقِ، اذهبي للراحة وسأبقى هنا، سأخبرك بكل ما حدث لذلك أذهبي فتبدين كمن سيفقد الوعي في أي لحظة" قال يوجين وكانت جملته هي آخر ما تحتاجه حتى تعزم أمرها على الرحيل، ألقت نظرة معتذرة نحو الجميع قبل أن تتبع الخادمتين حيث يرشدانها.

كان القصر يحتشد بالخدم في كل مكان ولكن لجلنار بدو كآلات متحركة، كل شخص يتحرك بنظام معين لا توجد أحاديث صغيرة ولا تكاسل ولم ترى خادمة واحدة واقفة في مكان ما دون عمل.

وعلى الرغم من ذلك الآن فقط بعد أن ابتعدت عن رئيس الخدم كان بإمكانها ملاحظة نظرات الفضول تتبعها كما اعتادت منذ ان أعلنت عن نفسها.

حتى الخادمتان اللتين ترشدانها كنتا تسترقان نظرة أو اثنتين نحوها كلما سنحت لهما الفرصة، ولكنهما لم تمتلكا الشجاعة لتحدث او السؤال معها.

كما كانت عائلة أركستوراي تمتلك قصر ضيوف منفصل فكذلك كان قصر العائلة المالكة، ولكن على عكس أركتسوراي فكان الوصول لقصر الضيوف هنا أكثر سهولة وروعة في رأي جلنار. فكان ما يصل بين القصرين هو جسر ذو سقف وجدران زجاجيه ملونه بالكامل تلتف النباتات من حوله وتحميه أخشاب قوية أشبه بفروع الشجر.

كان الجسر يطل على الحديقة الخارجية حيث كان بإمكانها رؤية أحد نوافير الماء الضخمة والتي كانت ساحرة المنظر، كان نحتها مثيرًا للأعين، امرأة جميلة تقف شامخة الرأس ممسكة برمح بيدها اليمين ويدها اليسرى تحمل ما يشبه جرة ينساب منها الماء وحول رأسها تدور حلقات ذهبية صغيرة بفعل السحر.

لم تدرك جلنار أنها توقفت عن المشي بينما تحدق بها بانبهار فأشعة الشمس انعكست على سطح الماء وقطراته ليتلألأ كما الألماس.

"سيدتي!" أجفلت بخفة عندما نادتها إحدى الخادمتين "أعتذر، لكنها جميلة حقًا" قالت جلنار مبتسمة قبل أن تلتفت نحوها "أليس كذلك؟ لا أنفك عن التحديق بها طيلة الوقت" هتفت الخادمة الأخرى بحماس وحب شديدين لجمال النافورة. نكزتها زميلتها بسرعة منبهة لأسلوبها وقد أصفر وجهها بفزع.

"أنـ..أنا أعتذر سيدتي، لم أقصد التحدث بوقاحة" انحنت بسرعة بأعين متسعة ليرتفع حاجبا جلنار بتعجب "لا بأس، يمكنني أن أرى سبب حماسك" ضحكت في النهاية في محاولة لتخفيف حدة موقفهما بينما ظلت الخادمتين تحدقان بوجه جلنار بانبهار.

كانت التعليمات جدًا واضحة بخصوص التعامل مع الضيوف، لا أحاديث ولا ابتسامات ولا نظرات حتى، عليهما تلبية الاحتياجات بصمت.

كان الخدم على قدر من التفهم فعليهم التعامل مع فرسان الممالك كلها وعلى رأسهم وريث العرش وابنة التوبازيوس والتي بحد ذاتها تبدو أسطورة.

ولكن الآن كل ما يشهدان عليه هو فتاة هادئة لطيفة التعبير، انعكاس الشمس على خصلاتها البنية المبعثرة بخفة فوق وجهها أضاف لمسة من الرقة لشخصيتها بينما غزى وجهها المتعب ابتسامة ساحرة وهي تحدق بهما..

شعرت الاثنتين أن كل أحكامهما المسبقة تلاشت في ثانيه مع الريح "إلهي أنتِ حقًا جميلة" بلا إدراك انسابت الكلمات من بين شفتي الأولى وعندما أدركت ما قالته اتسعت عينها واكتسح وجهها حمرة الخجل.

حدقت بها جلنار لوهلة بذهول ولكنها لم تتمالك نفسها حتى وتعالت ضحكاتها المكان.

لم تعلم كم اشتاقت أن تعامل كفتاة لا كفارسة حتى سمعت هذا المديح، كانت ممتنة جدًا لهذه الجملة البسيطة والتي بدت صادقة جدًا "شكرًا لكِ، كلاكما تبدوان في غاية اللطف أيضًا".

وفجأة شعرت كلا الخادمتين الصغيرتين في العمر أنهما يملكان الطاقة لخدمة القصر كله لا الضيوف فحسب، كانت كل واحدة فيهما تحاولا تمالك ابتسامتها يشعران فجأة أن ثقل اليوم أصبح أخف.

تمكنت جلنار من كسر حدة الأجواء وعوضًا عن أتباعهما قررت المشي بينهما بينما تحكي لهما عن وجود منحوتات ونوافير كتلك على كوكب الأرض لكنها تفتقر إلى السحر.

وكانت الخادمتين مبهورتان بما تقصه جلنار عليهما حتى تمنت كل منهما ألا ينتهي الطريق أبدًا ولكن ما لبثا حتى وصلوا جميعًا لجناح جلنار.

اعتذرت الاثنتين عن إزعاجها بالأسئلة قبل أن يوجهها إلى جهاز إرسال بجوار سريرها ذو الحجم المزدوج، إن أرادت استدعاء إحداهما في أي وقت كل ما عليها ضغط زر واحد قبل أن يتركها وحدها لتلقي بجسدها فوق السرير الذي شعرت في هذه اللحظة أنه أكثر سرير مريح استعملته في حياتها.

"جارلين، هل أنا الوحيدة التي تظن أن ما حدث قبل قليل مجرد حلم؟" التفتت جارلين لرفيقتها وحركت رأسها نافيه "ظننت أن امرأة في مقامها كانت لتكون أكثر.." وقفت في محاولة لإيجاد الوصف المناسب لتكمل الأخرى عنها "قسوة!".

أومأت جارلين بسرعة "لكنها بدت فقط لطيفة ومتعبة" تنهدت ماري وقال: "عوضًا عن الشعور بالرهبة منها بت أشعر بالرأفة على حالها".

"لنكن معاونتين لها حتى تغادرنا إذًا، أشعر برغبة قوية في مساعدتها" أومأت الأخيرة باتفاق وشعرتا أن حديثهما مع أحد البشر سيكون قصة لن تكفا عن قصّها لباقِ الخدم لاحقًا.

....

"يا إلهييي! أنتم أكثر مجموعة مملة عبر التاريخ" صاح يوجين بعد أول خمسة عشر دقيقة يقضيها مع الجميع.

كان الجميع يحتل الأرائك في غرفة الضيافة بصمت ممل، ويبدو أن يوجين ليس المتذمر الوحيد في المكان فثونار التي جلست بشكل مقلوب، قدميها مستقرتين على ظهر الكرسي بينا يتدلى رأسها من على الحافة كادت تنفجر مللًا.

خصلات شعرها لامست الأرضية بينما تحدق بظهر جوزفين المقلوب وقد نفخت للمرة العاشرة قبل أن تخرج أنين متذمرًا.

"أنتم مملون" تمتمت ليلتفت يوجين نحوها قائلًا: "أخيرًا شخص بمشاعر طبيعية".

"لسنا هنا للعب ثونار". دحرجت عينها لجملة أوكتيفيان وفضّلت عدم الرد عليه ومازالت عينها تحدق بجوزفين الواقف أمام النافذة منذ أن عشر دقائق بلا حراك، تعرف تمامًا أين تجد متعتها لكنها تكبح نفسها بشدة عن ذلك، فالفاصل بين المتعة والكارثة عند ثونار هو خط رفيع تحاول دائمًا فهمه.

لا تعلم تمامًا إن لاحظ الآخرون أم لا ولكنها على يقين بما رأت، تعلم تمامًا كيف تبدو نظرات الاستحقار المخبئة بين الوجوه وتلك النظرات لم تغفلها منذ مجيئهم، بداية من رئيس الخدم وحتى بعض الحرس والخدم، خاصة الأكبر سنًا فيهم.

كانت جميع تلك النظرات مغلفة بطبقة رديئة من الاحترام المزيف وكلها متجهة لشخص واحد.

طُرق الباب الضخم قبل أن تستأذن لدخول خادمة تبدو في منتصف العمر، وقفت بأدب وانحنت قائلة "سموك". التفت جوزفين وما إن لمح الخادمة اتسعت عينه بخفة "ناريل!" وجهت نحوه ابتسامة متحفظة وطلبت بأدب "أيمكن لسموك مرافقتي؟".

كانت ثونار تحدق بكليهما بتركيز وقد لاحظت ردة الفعل الغريب الذي صدر من جوزفين لتو، راقبته يلتفت نحوهم قبل أن يستأذن منهم في الذهاب لمدة وجيزة، لم يمانع أوكتيفيان بينما بدى أتريوس غير مهتمًا وعينه لم يزحها عن النافذة بجواره. وكل من واندر وزوندي ابتسما بأدب دون اعتراض.

تبعته عينها بصمت حتى خرج الاثنين من المكان، ابتسامة صغيرة ارتسمت على شفتيها قبل أن تذكر نفسها متمتمه "لست مذنبة إن كانت المتعة هي ما جاءت بنفسها".

عدلت من جلستها قبل أن تقف على قدميها وتمدد جسدها قائلة: "أنا في حاجة لاستخدام المرحاض، لن أتأخر" التفت أوكتيفيان نحوها بسرعة محذرًا "ثونـــار" نفخت بملل وهتفت "لن أسبب مشكلة، ماذا؟ هل تمنعني من حقوقي أيضًا هنا؟" انقبض فكه بانزعاج وهو يحدق بتعبيرها البريئة بشك..

نهض من مكانه واستدعى أحد الخدم قائلا: "أيمكنك إرشادها لدورات المياه وإعادتها على الفور؟" رغم شعور الشاب بالفزع ولكنه أومأ بطاعة والتفت لثونار طالبًا منها أن تتبعه باحترام "بكل سرور" قالت بابتسامة لطيفة والتفتت تتبعه.

"أنتِ تنوين مصيبة" تمتم يوجين يراقبها قبل أن تتسع ابتسامته مردفًا: "وأنا شبح لا أملك سوى المشاهدة" التفت نحو البقية وقال بازدراء "إلى اللقاء يا حفنة العجزة".

خرجت ثونار ويوجين من المكان يتبعان الخادم وما إن ابتعدوا كفاية راقبت ثونار محيطها وما إن لاحظت ألا أعين تراهما أسرعت بخطواتها حتى أصبحت تسيرًا جنبًا لجنب بجوار الخادم، التفت نحوها باستغراب وكاد يتساءل عما تحتاج ولكنها وضعت كف يدها فوق كتفه مقتربة من أذنه وهمست بتعويذة صغيرة "أكساي موراما".

تجمد الشاب في مكانه وظلت عينه تحدق في الفراغ لوهله كما المغيب عن الوعي بينما تابعت ثونار طريقها بلا توقف وابتسامة خبيثة تحتل شفتيها.

ظل يوجين يتبعها بدهشة وهو يلتفت نحو الشاب الذي طرفت عينه بعد دقيقة ونظر حوله ببعض البلاهة غير متذكر لما كان هنا وما الذي يفعله وفي النهاية حك رأسه بارتباك والتفت في طريقه غير متذكر أي مما حدث منذ عشر دقائق.

"لا أعلم أن كان علي الخوف أم الاستمتاع لكن كم يمكن للأمور أن تسوء؟" تمتم يوجين محدق بثونار ولكنه يعلم أن عليه حتى الآن فقط إبقاء وجوده خفيًا عنها.

"والآن.. أين ذهبت" بنبرة غنائية قالت ثونار بينما تفحصت المكان، التمعت عينها قبل أن تتوهج بلون أزرق تمكنها من رؤية أثار طاقة أجساد كل من مر على المكان.

كان الأمر أشبه بخط بإمكانها أتباعه وخاصة جوزفين كانت ذهبية بسبب آثار التعويذة الصغيرة التي وضعتها عليه في قصر أركستوراي.

قبل أن تتبع ثونار أثره ألقت تعويذة سريعة على نفسها لم يفهم يوجين لما ولكنه شاهد بصمت على أي حال.

تحركت تتبع الخيط الذهبي الصغير حتى وصلت لسلم كبير صعدته بسرعة والتفت لممر الشبه مظلم على يمينها، خلال سيرها كانت تلاحظ كلما اقتربت من تلك الجهة من القصر كان عدد العاملين يصبح أقل، توقفت عندما كادت إحدى الخادمات تصطدم بها وعلى الرغم من ذلك لم تنظر الخادمة نحوها.

عند مدخل الممر أوقف أحد الحرس الخادمة قائلًا: "لا يمكنك الدخول لهذه الجهة من القصر" توترت الخادمة المقصودة ولكنها قالت "تم إمرتي بإرسال صينية الحلوى هذه لداخل" أومأ الحارس وأخذ الصينية منها قبل أن ينادي على أسم خادمة أخرى ظهرت فجأة من بين الظلام وأخذت الصينية وعادت لداخل دون أن تنطق بحرف.

ظلت الخادمة الأخرى تحدق بفضول للممر الطويل ولكنها أجفلت عندما نظر الحارس نحوها بحدة مما دفعها للالتفات والعودة أدراجها.

"هذا مثيرًا للاهتمام". قالت كل من ثونار ويوجين في ذات الدقيقة قبل أن تأخذ ثونار نفسًا وتنطلق نحو الممر.

حدق نحوها يوجين بصدمة عندما مرت كالأشباح بجوار الحارس وكأنه لم يراها ليتبعها بسرعه قائلًا: "أيمكن لهذه المرأة الاختفاء؟".

"لا أملك الكثير من الوقت" تنهدت ثونار وهي تسرع في خطواتها تحاول تتبع الأثر بسرعة، كان الممر غريبًا وطويلًا، مظلم لا يحتوي على نوافذ ضخمة كما القصر كله فقط بعض النوافذ الصغيرة والمتباعدة.

وقفت ثونار أمام باب معين مغلق ومالت برأسها نحوه تحاول سماع ما يدور في الداخل.

"أعتذر عن تركك في الخارج لكني سألقي نظرة" قال يوجين قبل أن يقحم رأسه من خلال الباب غير عالم أن ثونار بإمكانها إلقاء تعويذة أخرى لتقوي بها سمعها حتى تصبح قادره على سماع ما يُقال على الجهة الأخرى.

في المقابل كان يوجين قادرًا على سماع ورؤية ما يحدث بوضوح. حدق بجوزفين الذي ظل واقفًا فيما يشبه المكتب الصغير وأمامه الخادمة التي استدعته منذ دقائق كانت تبدو متماسكة وباردة التعبير على الرغم من أن حركة يدها المتشبثة في مئزرها الأبيض الصغير تدل على عكس ذلك.

"لا يمكنني فعل ذلك ناريل، أنا هنا لأجل هذا الاجتماع السخيف والعودة حيث جئت". ابتلعت الخادمة وبدت يائسة وقالت: "سيدي، أفهم تمامًا ما يقلق خاطرك ولكن.. هذا رجاء خاص مني، أرجوك فقط لبعض الوقت، في الآونة الأخيرة لا تبدو جلالتها على ما يرام، لا تعلم كم بدت مشرقة منذ سمعت بمجيئك، اتمنى من كل قلبي أن توافق على مقابلتها".

زفر جوزفين ماسحًا وجهه بتوتر "كلانا يعلم كيف بإمكان مقابلة كهذه أن تنتهي". زمّت شفتيها وبدت مترددة فيما ستقول ولكنها قالته دون أن تواجه نظراته "اسمح لي بقول هذا.. إن توخى سيدي الحذر فيما يفعل أو يقول، فلن يحدث أي سوء".

كان يبدو في قمة يأسه بينما يحدق بالأرضية باستسلام يشعر أن الغرفة تضيق به مع كل نفس يأخذه بصعوبة.

"الأمور تزداد غرابة" تمتمت ثونار وكف يدها ثابت فوق الباب حتى تتمكن من سماع ما يُقال ولكن الصمت الطويل جعلها تبتعد بسرعة وتأخذ خطوتين للخلف.

تسلل الضوء الأصفر الكئيب خارج الغرفة مضيئًا جزءً صغيرًا من الممر قبل أن يخرج جوزفين من المكان بتعبير جامد حدق بنهاية الممر لثواني حيث وقف الحارس يتثاءب بملل، بدا وكأنه على وشك إطلاق ساقيه والركض..

الهرب خارج هذا الجزء من القصر.

بل الهرب من القصر كامله.

ولكنه التفت بهدوء لناحية المعاكسة حيث بدأت فجأة معزوفة هادئة تصدح في المكان ولكنها خافتة وبعيدة، جر قدميه حيث مصدر اللحن ومع كل خطوة كان يبدو كمن يُساق لعذاب حتمي.

ظلت ثونار ملتصقة بالجدار تراقب ظهره وهو يبتعد شيء فشيئًا وقد خرجت الخادمة من بعده تسير خلفه بخطوات ثابتة. أمالت رأسها لثواني بينما تراقب وجه الخادمة الذي بدا بلا تعبير سوى عن ابتسامة رضى صغيرة جدًا بالكاد يمكن ملاحظتها.

"لما بدأت الأجواء تزداد غرابة" تمتم يوجين بينما احتضن كتفه الأيمن يحرك كف يده صعودًا ونزولًا وهو يحدق بالمشهد بجوار ثونار.

أجفل عندما تحركت ثونار ليتبعها فورًا، أما الأخيرة فكانت غارقة في أفكارها، وكلما التقطت اذنها صوت المعزوفة الغريبة تشعر بثقل يجثم على صدرها ولكنها بالرغم من ذلك لم تتوقف عن فكرة تتبعهما.

في نهاية الممر وقف جوزفين في مكانه وحدق لثواني في اللوحة ضخمة الحجم المعلقة أمامه "أسمح لي بأن أسبق سموك" وكأن الخادمة استشعرت رغبته في البقاء وحده ولو لبضع دقائق لذلك استأذنت ليومئ برأسه دون النظر نحوها.

تقدمت ثونار بخطوات بطيئة خشية أن تُسمع، ووقفت خلفه مباشرة تسترق النظر من خلف كتفه تحاول رؤية إلى ما ينظر.

كانت اللوحة الضخمة قديمة، ولكنها نظيفة بالرغم من أن إطارها المهترئ، كانت صورة مرسومة وهو شيء نادر وجوده في مملكة المتنكرين فلم يعد أحد يستعين هنا بالألوان لرسم صور شخصية.

حدقت بوجه السيدة في اللوحة بانبهار، كانت امرأة وكأن وجهها بدر في ليلة مظلمة، خصلاتها نسجت من أشعة الشمس الشقراء وعينها الزرقاء الناعسة كستها أهداب طويلة، شفتيها الرقيقتين كحبات التوت، تملك تعبير يثير الدفء داخل صدر من يشاهدها.

كانت فكرة واحدة تدور في رأس ثونار، أمّا أن الرسام قد بالغ في مجاملة السيدة المرسومة أم أن هناك بالفعل امرأة تنافس البدر في جمالها.

عينها التقطت الصبي الذي جاورها مرتديًا حُلة باهظة الثمن تصرخ بالملكية، شعره الأشقر كان يطابق تمامًا شعر والدته، ولكن تعبيره بدت أكثر نشاطًا وابتسامته رغم بساطتها إلى أن من الواضح أنه كان يحاول منع هذه الابتسام من أن تصبح أكبر.

في هذه اللحظة كان كل من ثونار ويوجين يدركان أنهما يحدقان في صورة الملكة وابنها، ولكن ثونار تساءلت إلى أي ابن تنظر بالضبط!

الصبي بدا نسخة صغيرة من جوزفين، وبالرغم من ذلك بعدما دققت النظر، ذلك لم يكن جوزفين، عيني جوزفين رمادية اللون وواسعة أما الصبي فيملك عينين زرقاوتين مشابهة تمامًا لخاصة والدته.

كانت اللوحة أقل ما يُقال عنها تحفة فنية، بإمكانك الوقوف والتحديق فيها لساعات، وعلى الرغم من ذلك شيء ما لم يبدو صحيحًا لثونار، هذه ليست صورة عائلة عادية!

عينها اتجهت لظهر جوزفين الثابت في مكانه، لا تعرف لما شعرت في هذه اللحظة برغبة كبيرة في التربيت على كتفه ولكنها أوقفت نفسها في منتصف الطريق وتراجعت بسرعة لتسقط يدها بجوارها في شكل قبضة اعتصرتها.

التفت جوزفين وتابع طريقه دون أن يتفوه بكلمة أو يصدر أي فعل وكأنه آلة.

ولكنه لم يكن كذلك.

كان يشعر أن عملية التنفس باتت أكثر صعوبة، وكأن صدره يأبى دخول الهواء، جسده أخذ يتعرق بينما يشعر أن هناك من يحدق به، بل وكأن جميع الأعين في المكان تنظر نحوه، وكأن الممرات مكدسة بآلاف الأعين تحدق بكل خطوة يأخذها وبكل تعبير يرسمه على وجهه وبكل حركة يقدم عليها.

وكأن جميع هؤلاء الخدم يعلمون من يكون وما هو عليه.

كان صوت اللحن يصبح مسموعًا أكثر كلما تقدم ثلاثتهم حتى وصلوا للمصدر.

وقف أمام الباب الكبير المزين وحدق به الحارسان الواقفان على كل طرف ينتظران أمره، أغمض عينه لثواني يحاول استعادة رابطة جأشه قبل أن يومئ برأسه ليتحرك الحارسان بسرعة ويفتحان الباب مانحان له مساحة ليدخل.

دخل جوزفين ولحقته بسرعة ثونار قبل أن يُغلق الباب وتمتمت بسرعة بذات التعويذة حتى يمتد وقتها ولكنها تعلم أن هذه الكمية من السحر سيكلفها نهاية سيئة تعرفها جيدًا.

لم تكن تعلم أن الأمور ستصبح مثيرة لهذا الحد، فكرت وهي تحدق بالغرفة الواسعة الشبيهة بسقيفة للأزهار، ذات سقف زجاجي ضخم تنبت فوقه جذور النباتات وتحاوطه أشكال النبات والزهور المختلفة في كل مكان.

وفي المنتصف كانت طاولة زجاجية كبيرة وضع عليها أنواع الحلوى المختلفة التي بإمكانها أغراء أي مخلوق يجلس أمامها.

كأسين زجاجين وضعا بحرص واحد أمام الكرسي الفارغ والآخر على الجهة الأخرى، حيث جلست سيدة ذات فستان أبيض رقيق وهادئ التصميم، وضعت كلا ذارعيها فوق الطاولة وأسندت رأسها إليهما لتنسدل بعض الخصلات الرمادية التي لم يتم جمعها مع بقية الشعر بنعومة فوق الطاولة.

على مقربة منها كانت تقف الوصيفة ناريل بصمت وبجوارها شابة أصغر منها حدقت باهتمام شديد بالمشهد وكأنها تشاهد فلمًا دراميًا.

ظل جوزفين واقفًا مكانه يحدق بجسدها، فتح شفتيه وأراد إخراج صوته ولكنه لم يقوَ على ذلك.

في المقابل كانت آيفيلا - الخادمة الأصغر سنًا- تحدق بوجه جوزفين بذهول تكاد تصرخ لشدة حماسها ولكنها ابتلعت ذلك الحماس عندما لاحظت تعبير وجهه.

ذلك لم يكن تعبير وجه أمير مدلل يلهو في الأرجاء مع الخادمات كما سمعت، لسبب ما شعرت بقشعريرة سيئة عندما نظرت لعينيه الخالية تمامًا وهو يحدق في جسد سيدتها.

وعندما طال الصمت حدقت آيفيلا بناريل بتوتر تستشعر موقفها، وبالفعل بدت ناريل كمن فقد صبره فقد عرفت أنها إن بقت هكذا فلن ينطق الرجل الواقف أمامهم بحرف لذلك تطوعت لكسر هذا الحاجز قائلة "جلالتك.."

أجفل جسد السيدة بخفة وفي ذات الوقت شعر جوزفين برغبة في ترك المكان والالتفات عائدًا ولكن رأس المرأة الذي ارتفع بهدوء لتقع عينها عليه تحاصره نظراتها جمد جسده.

ظلت تحدق بوجهه دون أن تحمل أي تعبير معين وهذا دفع ناريل لتوتر بشدة لذلك أرادت فتح فمها بسرعة ولكنها لم تكن في حاجة لذلك فأعين جلالتها اتسعت فجأة ووقفت من على مقعدها تحدق بجوزفين بأعين بدت تغزاها الدموع.

عقدت ثونار حاجبها وشعرت لوهلة بارتباك شديد، ولم تكن الوحيدة فيوجين كان يواجه الموقف ذاته.

المرأة الواقفة أمامهم هي ذات المرأة في اللوحة التي شاهدوها منذ دقائق ولكنها ليست ذات الشخص! المرأة في الصورة كانت شابة جميلة، يغزوا وجهها حمرة بسيطة وبدت نوعا ما.. على قيد الحياة.

ولكن الجسد الذي يحدقون به كان هزيًلا جدًا، وجهها كان متعبًا وعينها الزرقاء الجميلة بدت مرهقة وقد حاوطتها هالات غامقة، شعرها الأشقر حال للون رمادي وبدا أقل كثافة وشفتيها الورديتين كانتا جافتين مجروحتين.

تلك الشفتان ارتجفت بابتسامة أخذت تتسع بينما خرج صوتها لأول مرة منذ مجيئهم:

"طفلي! أيّدين".

وقف الجميع في مكانه يراقبون المشهد في صمت مخيف، بينما كادت ثونار تفقد عقلها فجأة! كان من الواضح أنها واقفة أمام جلالة الملكة، والدة جوزفين والذي من المفترض أن يكون مشهد للم شمل عائلي ولكن من بحق الإله يكون أيّدين؟

اتسعت عينها عندما نظرت لوجه جوزفين، كان الشخص ذاته ولكن عينه.. بدت مختلفة، زرقاء ناعسة وبالرغم من ذلك لم يتغير أي شيء به.

وفجأة بدت وكأنها تدرك ما يحدث..

تدرك من يكون أيّدين بالذات، فقد رأته للتو، واقفًا في اللوحة بجوار والدته عوضًا عن جوزفين.

"مرحبًا جلالتك".

خرج صوت جوزفين أخيرًا وبدا خافتًا مرتعشًا رغم مظهره المتماسك. اتسعت ابتسامتها ودعته بلهفة قائلة: "لما تقف بعيدًا عني، اقترب دعني احتضنك، لا تعلم كم اشتقت إليك حقًا يا صغيري". حارب جوزفين لرسم ابتسامة فوق شفتيه بينما يقترب بخطوات صغيرة منها.

سحبت جسده الطويل في عناق قوي وقد أغمضت عينها الدامعتين بينما تمسكت يدها بقميصه بقوة، ابتعدت عن جسده وحدقت في وجهه قبل أن تلمس يدها وجنته برقة قائلة: "أنظر إليك كم أصبحت رجلًا وسيمًا.." ظلت تتفحص تقاسيم وجهه قبل أن تهمس "إلهي كم اشتقت إليك".

ربت جوزفين على ظهرها بخفة قبل أن يساعدها في العودة لمقعدها ويأخذ مكانه على المقعد الذي يقابلها ومازلت كف يده داخل يدها الباردة تأبى تركه.

لم تبعد ناظريها عنه لدقيقه، بينما ظلت عينه تحدق بكف يده بين يديها بصمت. أخذت نفسًا قصيرًا قبل أن تتحدث قائلة: "أيعتني بك الخدم جيدًا هذه الأيام؟ أعلم أن العناية بأمور هذه المملكة يأخذ وقتًا وجهدًا كبيرين". ابتلع بصعوبة قبل أن يومئ مجيبًا: "لا يجب على جلالتك القلق، انا في حال جيده".

ربتت على ظاهر كف يده بنعومة وقد أخذت ابتسامة رقيقة ودافئة ترتسم على محياها "أن الوقت يمر بسرعة حقًا، لازلت أتذكر كم كنت تحب التسكع في هذه السقيفة الزجاجية طيلة الوقت بينما أجلس على هذا المقعد منشغلة بالقراءة، لقد كنت تطلب دائمًا مخبوزات التارن المحشية".

ظل وجه جوزفين جامد بلا أي تعبير ولكنه أومأ بصمت.

اسندت ثونار ظهرها بخفة ضامة ذارعيها لصدرها، نظرت لصحن مخبوزات التارن فوق الطاولة بحاجبين معقودين، تتذكر جيدًا أن جوزفين يكره التارن بكل أنواعه ولهذا كانت تتجنب واندر خبزه دائمًا.

"كنت دئمًا تحب التلويح بالسيوف مع الفرسان، إلهي كم كنت أشعر بالقلق حينما يخبرني الخدم أنك اتجهت لساحة التدريب.." أطلقت ضحكة صغيرة قبل أن تتمتم "والآن أنظر إليك، تبدو أفضل من أي فارس في القصر".

جوزفين دائمًا ما يحاول تجنب استخدام السيوف في قتاله، كانت ثونار متأكدة من هذه الحقيقة، كان ماهرًا جدًا في القتال اليدوي، ورغم اتقانه استخدام السيف لكنه يكره التحرك به واستخدامه.

"لا تجلس هكذا فقط بني، التقطت كأسك قبل أن يبرد" التفت نحو الكأس الزجاجية الصغيرة والتي احتوت على أحد المشروبات العشبية الساخنة ليلتقطه بهدوء وما أن ارتشف منه قالت والدته بسرعة "لقد طلبت منهم عدم إضافة مكعبات السكر، كما تحبه تمامًا".

جوزفين بفضل مشروباته مع ثلاث مكعبات من السكر، دائمًا!

كانت حقائق بسيطة كتلك تقفز داخل رأس ثونار مع كل جملة تُقال. حدقت بهدوء بوجه جوزفين الجامد بينما يبتلع مشروبه بهدوء دون أدنى اعتراض.

"أيّدين.."

ارتجفت يد جوزفين لثواني ولكنه نظر لوالدته بهدوء مواجهًا نظرات عتابها "لما توقفت عن زيارتي؟"

حدق بوجهها دون إجابة، بدت مشتتة وضائعة، في حاجة لسماع إجابة تريحها لكنه لم يكن يملك واحدة لقولها، في الواقع لم يكن يملك شيء لقوله كانت تكون في حاجة لسماعه لذلك أعاد كأسه فوق الطاولة بهدوء مجيبًا "أعتذر عن هذا التقصير جلالتك، لكني سـ.." لم يتمكن من إكمال جملته فقد اتسعت عينها وقالت بسرعة: "أعتذر، لقد أثقلت كاهلك بما فيه الكفاية، في النهاية أنت وريث العرش بالتأكيد عليك الاهتمام بهذه الامور أولًا".

ربتت على يده مجددًا وقالت بنبرة بدت كنبرة رجاء "لا تغضب مني أرجوك، أنا فقد افتقدك ليس إلا". قبض جوزفين يده بشدة فوق مسند مقعده حتى كاد يتحطم بين يديه، كان أشبه بعاصفة من المشاعر غير المرغوبة في هذه اللحظة وبالرغم من ذلك ظلت تعبيره ثابته لم تتغير وهذا كان أكثر ما أثار دهشة كل من ثونار ويوجين المتفرجان.

الأمر كله بدا غير طبيعي "هناك خطب ما في هذه العائلة" همس يوجين لنفسه بينما يراقب تعبير الملكة التي بدت كمن تحاول تجنب كارثة بصعوبة.

"هل أنت غاضب مني بني؟ لم أكن أرغب في أغـ.." قاطعها جوزفين بصوت هادئ "أنا لست جلالة الملك" كان من الواضح أنه لم يرغب في قول ما قال ولكنه لم يتمكن من كبح نفسه لوقت أكثر.

تجمد جسد والدته وقد اختفت ابتسامتها الصغيرة بينما تحدق بوجهه ولكنها ما لبثت حتى عادت ابتسامتها الباهتة مجددًا قائلة: "بالطبع لست كذلك أيها الوسيم، لكنك ستصبح يومًا".

تنهد ولم يحاول التحدث أكثر من هذا لتلتقط كأسها ترتشف منه بهدوء "لما لا تأكل بعض من الحلوى؟" هز رأسه مجيبًا باحترام "شكرًا لحسن هذه الضيافة جلالتك" قبل أن يلتقط قطعة صغيرة يقضمها دون اعتراض.

"أيديّن، لما لا تناديني بأمي؟ جلالته ليس هنا، يمكنك الاسترخاء" ضحكت في النهاية بينما ظلت عينه تحدق بقطعة الحلوى بين يده يسأل نفسه سؤال مشابه، كيف يمكن مناداتها بشيء غير جلالتك؟

كان يشعر بالإنهاك يفتك به، أراد فقط الخروج من هذا المكان كله، رفع عينه نحو الخادمة ناريل التي حدقت بوجهه بصمت وهدوء شديدين بينما الصغيرة آيفيلا أجفل جسدها بتوتر ما إن لاحظت نظراته.

كانت قد أدركت منذ وقت طويل أن هناك خطب في هذا اللقاء كله، ربما لا تملك المعرفة بالماضي، ولكنها تعلم كيف يبدو الانسان المتعب حتى وإن حارب في اخفاء هذا، وبالرغم من براعة الأمير الجالس أمامها لكن شيء في نظرته نحو ناريل كان يحمل رجاء.

لذلك لا تعلم لما وجدت نفسها ترفع عينها نحو ناريل تأمل أن تنهي هذا اللقاء ولكن الأخيرة لم تحرك ساكنة.

"أتتذكر هذا العقد أيديّن؟" أعاد أنظاره نحو والدته التي تلمست العقد الذي زين عنقها بهدوء "لقد أهديتني أيها في عيد ميلادك الثامن عشر، بالرغم من أنه كان عيد ميلادك أيها الأحمق، إلى أنك أهديتني أنا عوضًا عن تلقي الهدايا" أخرجت تنهيدة صغيرة وعينها تحدق بنقطة بعيدة وكأن ذكريات ذلك اليوم تمر أمام ناظريها.

"لقد تناولنا يومها وجبة معًا و.." سكتت لوهلة وبدت عينيها حائرة "لحظة.. لم يكن أنـ.." عقدة تشكلت بين حاجبيها وطرفت أكثر من مرة بينما بدت مشوشة، تلمست العقد بحدة بينما ذكريات مختلفة كانت تمر أمام عينها "لما تشاجر معك جلالته يومها أيديـ.." توقفت مجددًا وابتلعت بتوتر.

"جلالتك!" نادت ناريل بحذر ولكنها لم تحصل على إجابة.

حدق جوزفين في وجه والدته يراقب تبدل تعبيرها، ارتفعت عينها نحو وجهه تحدق بعينيه بتركيز قبل أن تبتعد للخلف بهدوء..

"أنت لست أيديّن!".

ارتجفت يد الوصيفة وقد بدت كمن فقدت هدوءها فجأة، اعتدلت ثونار في وقفتها وهي تشاهد ما يحدث الآن باهتمام أكبر بينما ظل جوزفين حبيس مقعده يحدق بوالدته يشعر بلسانه تشله مئة عقدة.

"جـ...جـوزفــين".

توقفت أنفاسه وقد شعر بالتوتر فجأة يتحكم بجسده وبالرغم من ذلك ظل يراقبها ولكن هذه المرة بتعبير مختلف، لوهلة فقط بدا حقًا متلهفًا بينما ينتظر رد فعلها.

عين الملكة تحركت تنظر حولها بتشتت قبل أن تقع على وجه جوزفين مجددًا، عينيه بالتحديد التي عادت للونها الرمادي المعتاد لترتجف يدها بينما تلتفت نحو خادمتها بوجه مرتبك.

"أين هو أيدين؟" تسارعت أنفاس جوزفين، وقعت عينيه بسرعة على كف يده الذي دفعتها والدته بسرعة قبل أن تنظر نحوه مجددًا متسائلة: "أين شقيقك جوزفين؟" ظلت عينه معلقة بكف يده الملقاة فوق قدميه.

"لقد ذهب".

خرج صوته أخيرًا لتسأل دون تردد "أيـ.. ين؟ كان يجب عليه زيارتي اليوم". زم شفتيه بقوة وابتلع قبل أن يرفع عينه نحوها قائلًا: "أنه مشغول جلالتك، خارج المملكة، لكنه أخبرني أنه سيعود قريبًا لرؤيتك".

انطلقت ناريل بسرعة ممسكة بكتف الملكة مضيفة "بالطبع جلالتك، لقد كان ولي العهد في حاجة لذهاب بسرعة خارج المملكة، تعلم جلالتها أن مصالح المملكة لا يمكن أتجيلها".

بهتت تعبيرها وهي تحدق بالطاولة بخيبة أمل كبيرة قبل أن تخرج تنهيدة قوية "لقد وعدتني بمجيئه.." حاولت منع دموعها قبل أن تردف: "إنه يشغل نفسه دائمًا بالعمل، أشعر بالرأفة على حاله" تمتمت قبل أن تغمض عينها بإرهاق "أريد العودة لغرفتي" قالت لتومئ خادمتها بطاعة.

"أيمكنك إخبار شقيقك بزيارتي من وقت لآخر جوزفين؟" لم ينظر لوجهها، لم يجبها، لم يحرك ساكنًا، ظل في مكانه يسند ظهره لمقعده بصمت.

نهضت من مكانها تشعر ببعض الاختناق، تعدت مقعد جوزفين متجهة للخارج ولكنها توقفت في مكانها ما إن صدح صوت جوزفين مناديًا "أمي!".

التفتت نصف التفاته تنظر نحوه باستغراب، التفت في مقعده ونظر نحوها قائلًا: "لقد تم اختياري لأصبح أحد فرسان التوبازيوس". بالرغم من ثبات تعبيره، كان بإمكان ثونار كالعادة قراءة تلك العينين، تتوسل، وكأنها تحاول البحث عن أمل أخير

ظلت تنظر نحوه بهدوء قبل أن تقول بنبرة خافتة "أنت وليس أيدين؟".

وكأن كل أماله تلقت صفعة مدوية، ظل يحدق بها بأعين ضائعة، يائسة، يراقبها بينما تتقدم نحوه، رفع رأسه ينظر لها كطفل صغير لوهلة وقد غطاه ظلها، نظرت لعينه بدفء قبل أن تضع يدها الباردة فوق وجنته بلطف.

"عزيزي جوزفين، أيمكنك إخفاء هذه الأخبار عن جلالته؟ لا أريد منه أن يشعر بخيبة أمل في أيديّن، تعلم أن علينا دفع شقيقك حتى يحوز على رضا جلالته، لا أريد أن يقارن أيديّن بك".

ظل يحدق بعينيها، شفتيه منفرجتين، بينما يشعر بالخواء. لقد أنساه الوقت ثقل هذا الشعور، ابتعاده عن هذا المكان أنساه كم مرة عاد حاملًا آماله ورغباته بين ذراعيه حتى نسي كيفية المحاولة.

مسلوب الإرادة هز رأسه دون أي تعبير لتبتسم له شاكرة قبل أن تلتفت للخروج من المكان، تاركة جوزفين يحدق مجددًا ومجددًا لظهرها يبتعد عنه.

بكل هدوء ودون حتى النظر نحوه، تحركت الوصيفة ناريل تلحق بسيدتها لكنها توقفت بجوار مقعد جوزفين، انحنت انحناءه صغيرة شاكرة "شكرًا لمقابلتها يا صاحب الجلالة، على الرغم أن الأمر لم ينتهِ تمامًا كما انتظرنا لكن حمدًا لله أنه انتهى بلا خسائر". نظرت نحوه بزاوية عينها لمرة أخيرة قبل أن تستأذن خارجة من المكان.

وظلت جملتها تتردد داخل ذهن جوزفين.

بلا خسائر!

تساءل عن كم خسائره الذي لم يقف أحدهم لحسابها يومًا، لكنه تناسى مجددًا أن الأمر غير مهم، لا خسائره، ولا مشاعره، ولا هو شخصيًا بهذه الأهمية هنا.

ظلت آيفيلا تحدق بجسد أميرها وتعبيره لدقائق، نست حتى أن عليها أن تتبع سيدتها للخارج، وظل سؤال واحد عالق في رأسها..

ماهو أحساس هذا الرجل في هذه اللحظة.

عينه شاردة تنظر نحو الأرضية، يديه ملقاه في حضنه وقد أراح جسده باستسلام فوق المقعد.

لم تفهم الحكاية كلها ولم تعرف ماذا يحدث بالضبط، ولكن كل ما تملكها هي رغبة قوية في احتضانه، ربما فقط التربيت على كتفه كداعمة ولكن تجاهله لوجودها بالكامل أعادها لأرض الواقع..

ليست سوى خادمة، يحرم عليها لمس العائلة المالكة دون أذن حتى، لذلك لملمت شتات أفكارها وتحركت بسرعة تتبع سيدتها ولكن ذلك الشعور كان خانقًا.

لذلك توقفت أمامه حتى إن لم يدرك وجودها وانحنت باحترام كبير قائلة: "يشرفني لقاء فارس مملكتنا" كانت دائمًا شخص يتبع حدسه، وفي هذه اللحظة كان حدسها يخبرها أنه بحاجه لتذكيره بأنه فارس، لا أمير.

عينه ارتفعت نحوها للحظة يحدق بوجهها ذو النمش وهذا دفعها لإدراك فداحة تهورها، ربما التحدث مع شخص في أسوأ حالته المزاجية خاصة وإن كان ولي العهد ليس بالخيار الجيد.

اتسعت عينها عندما ظهرت ابتسامة لطيفة على محياه وأومأ برأسه قائلًا: "يسرني ذلك أيتها الآنسة، أتمنى أن تعتني بجلالتها جيدًا و.." وقف ثواني ينظر لوجهها، بدت صبيه صغيرة لذلك أضاف "واعتني بنفسك جيدًا".

حدقت بوجهه بأعين مذهولة قبل أن تشعر بنبضات قلبها تتسارع بقوة، أومأت باحترام والتفتت منسحبه من المكان قبل أن توبخها ناريل.

ذلك الشعور الذي يراودها، إنها تعلم جيدًا أنها ليست عاطفة رومانسية، فحتى وإن كانت مراهقة فهي ذكية كفاية لتعرف جيدًا ما يروداها من مشاعر، لقد كان إعجابًا واحترام شديدين، كمن وجدت قدوتها فجأة!

وظلت فكرتين تجولان في رأسها بينما تسير في الممر.

هذا القصر ليس طبيعيًا..

 والأمير أفضل المتنكرين في المملكة، ربما في كل الممالك.

خلال خروج آيفيلا، وقفت ثونار تحدق بوجه جوزفين، بتعبيره الذي سقط ما إن أعطته الخادمة ظهرها، كانت تعلم أنها غير قادرة على إظهار وجودها هنا، كانت تتوقع بعض المصائب ربما القليل من الشجارات.

ولكنها وجدت نفسها متورطة في وضع مريب وغير مريح بالمرة، وبالرغم من ذلك أرادت البقاء، حتى وإن لم يعرف بوجودها.

وجدت في بقائها معه بعض من المواساة!

لكنها ظلت تبدل عينها بينه وبين الباب الذي سيغلقه الحرس بعد ثواني معدودة، حكت عنقها بشدة بينما تشعر به يحرقها بفعل تعويذتها.

عضت شفتيها بغيظ قبل أن تهمس بالتعويذة من جديد لتجديدها، أغلقت عينها بقوة وقد زادت رغبتها في شرب بعض الماء بشدة. ولكنها حاولت تناسي هذه الرغبة وجلست بهدوء فوق الأرضية تنظر لجوزفين، لا تعلم سبب بقائها هنا ولكنها لم ترد التفكير. فقط لبعض الوقت حتى تتسنى لها فرصة أخرى للخروج.

ولكنها لم تحرك ساكنة طيلة فترة بقاء جوزفين فوق مقعده.

ظل يوجين يبدل أنظاره بينهما باستغراب "إذًا.. أقرر الجميع فقط البقاء والتحديق في اللا شيء؟" تمتم يحاول إدراك موقفه من الأمر كله، لا ينكر شعوره بعدم الراحة لتجسسه على حياة جوزفين..

لطالما كان الأمر ممتعًا ولكنه الآن يقف في منطقة حساسة نوعًا ما، وهو شخص لا يحب حقًا وجوده في هذا النوع من المواقف، لا ينكر شعوره الكبير بالارتباك ولم يتمكن حتى الآن من فهم من يكون أيديّن وما القصة.

لذلك بقي لدقائق ينتظر أي شيء ليحدث، ولكنه انتظر لأجل لا شيء، كلهما جلس مكانه بصمت فحسب لذلك ما إن تمكن الملل بسرعة من يوجين قرر أن الخروج من هنا هو الحل الأنسب حاليًا.

وبهذا بقي جوزفين وثونار وحدهما، لا يدرك أحدهما وجود الآخر بجواره.

...

"بحق الله جميعهم غريبو أطوار!" تذمر يوجين بينما يطفو خلال الطرقات وكلما مر خادم أو خادمة بجواره كل ما كان يسمعه هو أسم جوزفين يتناقل بين أفواههم.

بدأ يوجين يتملكه شعور غريب حول هذا القصر، بكل من فيه "لما يخبئون الملكة في مكان كهذا، ولما الحرس؟" تساءل بينما يتفقد الغرف الكثيرة في المكان والذي كان أغلبها فارغًا.

وقف أمام لوحة عُلقت فوق الحائط، كانت لذات الصبي الذي رُسم مع الملكة في اللوحة السابقة "أيديّن" تمتم يوجين بالاسم مدركًا أنه لا يحدق بجوزفين، فأسم الأمير الأول مكتوب بخط صغير في زاوية الصورة.

بدا يوجين يشعر بالريبة، المكان كله لا يحمل سوى صور لهذا الصبي، سواء صور رسمية، أو صور له حول القصر لدرجة دفعته لشك أن جوزفين ليس سوى فتى متبنى.

"لا أعلم بأي وجه قد عاد؟"

التفت يوجين بسرعة نحو الخادمين الذين مرَ من خلفه، رجل في خمسينات عمره وأخرى عجوز..

"لا تتحدث كثيرًا إلا أن أردت أن يُفصل رأسك عن جسدك" حذرت العجوز ليدحرج الرجل عينه غير مبالٍ "إن أردتِ القول أن هناك آذان في كل مكان فنحن هي تلك الآذن لذلك أعفيني أيتها العجوز" صفعت كتفه بسرعة مطلقة السُباب لوصفها بالعجوز ولكنه تجاهلها قائلًا: "لقد عملنا هنا منذ نعومة أظافرنا آني، يمكنني دائمًا تذكر كم كنت أكره ذلك الصبي جوزفين".

لم تعقب العجوز وظلت تحافظ على صمتها بينما أستمر الخادم الآخر في التحدث "كان أنانيًا، كنت على يقين أنه يشعر دائمًا بالغير من الآخر، أنتِ تعلمين عمن أتحدث، لطالما ظننت أنه سيكبر ليكون مثير المشاكل وكنت محقًا ولكن.."

صمت لوهلة وتلفت ينظر حوله يتأكد من خلو المكان من أية آذان أخرى -غير مدرك لآذان الشبح بجواره- ثم قال: "أن يمتلك هذا القدر من الوقاحة لرؤية الملكة بعد فعل فعلته لهو شيء بشع، ولكنه أمير في النهاية" تمتم آخر جملته بلا مبالة.

نظرت نحوه العجوز بطرف عينها بلا اكتراث قبل أن تقول: "لقد كنت مجرد أحمقًا يعمل في الاسطبلات، كل ما تعرفه عن الأميران لم تراه بعينك يومًا أيها المتبجح" أكتسى وجهه الحمرة وارتبك قائلًا: "غـ.. غير صحيح، لقد كانا يزوران الاسطبلات كثيرًا وقتها".

أسرعت العجوز من خطواتها متمته ببعض السُباب بينما هرول الرجل خلفها بسرعة في محاولات مستميتة لإقناعها.

توقف يوجين عن ملاحقتهما وقد بدأت فكره صغير تتشكل داخل رأسه عن حياة جوزفين.

احتل التفكر مساحة كبيرة في رأس يوجين بينما يطفو بلا أي هدف في القصر، كان يتفحص أي مكان يظنه مثيرًا للاهتمام حتى وجد نفسه أمام باب كبير خشبي، بدا له أنها غرفة فارغة لذلك أقحم رأسه خلال الباب يلقي نظرة سريعة.

ارتفع حاجبه باهتمام عندما وقعت عينه على غرفة الاجتماعات الطويلة، يتنصفها طاولة خشبية قوية، يلتف حولها خمسة أشخاص.

على رأس الطاولة كان من الواضح أن الجالس هو الملك، كان ليوجين تذكره من اجتماع الملوك الذي حضرته جلنار كما أن بإمكانه ملاحظة الشبه بين الأب وابنه منذ النظرة الأولى، لون العينين، ملامح الوجه، وحتى التعابير وإيماءات الجسد كانت مشابهة جدًا، الفرق أن الرجل قدا بدا الشيب يغزوا رأسه.

لكن ما دفع يوجين للاهتمام بشدة لما يحدث هو الشخصين الجالسين مع الملك على ذات الطاولة.

"هذه الوجوه الكريهة هي آخر ما انتظرت رؤيته هنا، يال الأحداث التي تنهال على شبح في يوم واحد" صاح بدهشة قبل أن يخترق باب الغرفة ليتمكن من سماع كل ما يحدث.

"ماذا تفعل الخرفان النبيلة هنا؟" تساءل قبل أن يأخذ المقعد السادس مكانًا له ليطفو فوقه.

كان من الواضح أن الشخصيين الإضافيين ليسا سوى رجال للملك، خمن يوجين أن أحدهما ربما يكون وزيرًا أو مستشارًا ملكي، والثاني كان بالتأكيد رجلًا عسكري.

حدق يوجين في الكرسيين المقابلين له باشمئزاز ولكنه لا ينكر القلق الذي أصابه في ذات الوقت، لا يمكن للصدفة أن تجمع وجود أكبر نبيلين في ذات المكان الذي يتواجد فيه الفرسان.

"ألفن وجيلين، ماذا يفعل أكبر رأسيين للأفعى هنا؟" تمتم وقد شبك يديه فوق الطاولة يحدق بهما بتركيز.

"يمكنني تفهم تمامًا مكانتكما كنبيلين من مملكة قوية كالإلترانيوس ولكن، أتدركان ما تحاولان طلبه من جلالة الملك الآن؟" تحدث من يبدو كمستشار للملك بينما ظل الملك أورال ذاته متحفظًا على صمته.

"تمامًا، ما الذي يطلبانه بالضبط؟" قال يوجين متلهفًا لسماع المزيد.

"ندرك تمامًا ما نقول وإلا ما قطعنا هذه المسافة إلى هنا" أجاب جيلين لينفجر يوجين في مقعده صائحًا "ماذا قلتم بحق الإله؟".

ارتبك المستشار لوهلة رغم مظهره الثابت، اتجهت عينه للرجل الجالس جواره يحدق نحوهم بصمت، نحو ألفن بالذات ولم يتمكن من فهم إن كانت نظراته نظرات كراهية أم عدم اهتمام.

"هل تعلم ملكة الإلترانيوس بوجودكم هنا إذًا؟" سأل مجددًا مسببًا صمت جيلين لوهلة وقد هربت عينه بعيدًا عن المواجهة وبدا عليه الضيق من السؤال ولكنه قال: "مع كامل احترامي بالطبع لسمو الأميرة، لكنها لم تنصب كملكة، وربما يرى بعضنا أنها ليست جديرة بهذا المنصب.. بعد" زفر نفسًا قبل أن يتابع بأسى قائلًا: "ولكنها التقاليد، علينا احترامها بالطبع ولكن لا يمكننا رؤية مملكتنا على وشك السقوط والجلوس مكتوفي الأيدي! أنا على يقين أن جلالته -اعاده الإله سالمًا- سيقدّر رؤيتنا لفعل ما هو صحيح".

عم الصمت مجددًا أو هكذا بدى لهم فلم تتمكن آذانهم من سماع سخرية الشبح المستمرة.

"إذًا، فجميع النبلاء على كفة واحدة من هذا القرار؟" سأل هذه المرة الرجل الذي بدا شخصًا عسكريًا، ابتسم جلين مجددًا وبدا أنه نصب نفسه كمتحدث وقال: "بالطبع جميعنا على القرار ذاته" أخرج يوجين ضحكة مستنكرة وصاح "أيها الكذبة، تريد إخباري أن الملاك كليسنسـ.. ماذا كان اسمها مجددًا، من غير الممكن لتلك السيدة النبيلة أن تكون في صفكم".

"جئتني لطلب إمداد ودعم عسكري في وقت كهذا، أتعلم ما يعنيه هذا سيد ألفن؟".

للمرة الأولى صدح صوت الملك في المكان وعينه اتجهت نحو ألفن غير مبالي بالآخر. لم يكن في انتظار إجابة لأنه بالفعل كان يملك واحدة وأراد التأكد منها لذلك أجاب عن سؤاله قائلًا: "هذا يعني إعلان عدم ثقتك في الفرسان، بمن فيهم ولي عهد هذه المملكة، أبني".

ارتفع حاجب يوجين عندما استشعر أن آخر كلمة خرجت بصعوبة من فمه "لا أعلم إن كان علي الوقوف في صفك أم ضدكم جميعًا أيها المعاتيه" قال وهو يحدق في نظرات الملك التي كان الازدراء واضح فيها.

"جلالتك نحن لا نـ.." كعادته جلين حاول التدخل ولكن ألفن قاطعه هذه المرة مقررًا الحديث بكل هدوء: "أنا على إدراك تام بما يبدو لك الأمر، لكني لست هنا لتعامل مع الاتهامات الملتوية أو محاولات الإيقاع اللفظي جلالتك، جميعنا في هذه الغرفة نعلم أن أكثر شخص لا يثق بولي العهد هو أنت جلالتك، أنت لم تثق بابنك يومًا، لذلك اترك عنا هذه المحاولات الواضحة للإيقاع بنا".

ظهر الارتباك على وجه المستشار بينما الرجل الذي يجاوره نهض ضاربًا الطاولة بيده بعصبية صائحًا: "كيف تجرؤ على التحدث بهذه الوقاحة في وجهة جلالته، أتظن أنك ستخرج حيًا من هذه الغرفة بعد ما تفوهت به؟" كاد الرجل يستل سيفه ولكن يد الملك الذي امتدت كإشارة ليتوقف تركت يده على غمد السيف جامدة بلا حركة.

في المقابل ظل ألفن يحدق بالملك بلا اكتراث وهذا ما اثار حفيظة الرجل الآخر أكثرًا.

"أجلس آرثر". أمر الملك بهدوء ليطحن الرجل أسنانه بغيظ ولكنه حاول تمالك نفسه والجلوس امتثالًا لأوامر الملك.

"أنا لا أحاول إهانة جلالتك، لكني رجل لا أسرد سوى الحقائق، كما أنني لا أملك لسانًا يمكنه تنميق الحديث، وأعلم أن جلالتك لا يملك وقتًا للأحاديث المنمقة التي لا طائل منها.." صمت لثانية يترك لمستمعيه فرصة لاستيعاب حديثه.

شبك يديه وحدق بعينين الملك قائلًا: "الأمر لا يقتصر على مملكتنا فقط جلالتك، أن ظل الأمر على ما هو عليه، فجميعنا معروضون لذات الخطر، خلال اسبوع فقط هجومين أصابا مملكتك أحدهما كان صباح اليوم، أيمكنك إخباري ما الذي قام به الفرسان حتى الآن لتدارك الأمر؟".

"إن كان بإمكاني تسخير قوتي كلها للبصق على وجهك القبيح لفعلت" هسهس يوجين وقبضته تضغط على الطاولة بغضب.

"انهم مجموعة همجية لازالت تتلقى تدريباتها حتى هذه اللحظة بينما نحن على شفا الدمار، جميع ما تمكنوا من فعله حتى اليوم هو زيادة الوضع سوءً، لقد فقدنا الكثير خاصة في المعارك التي خسروها ضد الإريبوس حتى الآن، مجموعة غير جديرة بالقوة المعطاة لهم، أوليس الكتاب واضحًا من عنوانه؟ قائدهم ليست سوى فتاة بشرية لم تمسك مقبض سيفًا في حياتها، أتريد تسليم مستقبل مملكتك لهؤلاء؟".

أراح الملك ظهره ضد المقعد بينما عينيه تفترس وجه ألفن "لكنها لم تبدو مجرد فتاة بشرية عندما شاهدت البث الذي وقفت فيه بشجاعة تعلن عن هويتها" ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتي ألفن وقال: "وهذا ما هي ماهرة به فحسب، الحديث هو مهارتها الوحيدة والذي أكسبها ولاء بعض الأشخاص، لكن هذا هو الأمر كله، مجرد متحدثة بارعة، لن تكون حتى قادرة على فعل شيء لنا، لما قد تهتم في المقام الأول فوطنها لن يتأثر بأي يكن ما سيحدث لنا، جلالتك".

مجددًا غرقت الغرفة في الصمت، ورغم أن التوتر كان يسود المكان إلى أن الملك ظل يفكر بكل هدوء وهو ينظر لوجه كل من ألفن وجلين.

"أيها الوضيعين، سأحرص بنفسي على الاستمتاع برائحة شواء لحمكما" من بين أسنانه بصق يوجين قبل أن ينظر لأورال مضيفًا "لست مرتاحًا لك أيضًا أيها الملك المريب، أظن أني أفهم رغبة جلنار دائمًا في إشعال الطاولة بمن عليها كلما حضرت أحد اجتماعاتهم".

"وماذا إن وصل خبر مجيئكما إلى هنا للفرسان؟ ألن تتعقد الأمور؟ تعلمون انهم موجودين في القصر في هذه اللحظة؟" سأل أورال ليقرر جلين التدخل مانحًا الملك ابتسامة مجاملة "نحن نطمع في حكمة جلالتك في اخفاء هذا الأمر عنهم، فمعرفتهم بالأمر سيزيد من تمردهم ضد إرادتنا، ونيتنا كما وضحنا لجلالتك لا تملك من الخبث شيئًا، كل ما نفكر به هو مصلحة أوطاننا، لذلك لنخفي الأمر عنهم، خاصة البشرية".

انفجر يوجين في الضحك ممسكًا بمعدته قائلًا من بين دموعه: "أكاد أشفق عليكم لسرعة فشل مخططاتكم أيها الحمقى ولكن أحذر ماذا؟" اندفع بسرعه طافيًا فوق الطاولة مواجهًا ألفن وجهًا لوجه يحدق به بينما التمعت عينه بكراهية غير مسبوقة "ستعرف البشرية بكل كلمة، ثق بي أيها اللعين".

انعقاد خفيف تشكل بين حاجبي ألفن وشعر برعشة قوية تمر بجسده ويكاد يقسم أنه شعر بهالة قاتلة حوله فقط لجزء من الثانية لذلك اتجهت عينه للرجل المدعو آرثر فهو الوحيد في الغرفة الذي قد يشكل خطرًا وبالرغم أن الرجل بالفعل لازال يحدق بألفن بازدراء إلى أنه كان من الواضح أنه ليس مصدر هذه الطاقة.

انطلق يوجين بين ممرات القصر، متبعًا قدرته على رؤية هالة جلنار لمعرفة أين تقع غرفتها، بالرغم من كونه شبح، لكن شعور الدماء تغلي في جسده لشدة الحماس كان قويًا.

ففكرة أن صدفة وجوده في المكان والزمان سيجعلهم متقدمين على النبلاء بخطوة كانت تثير حماسة، فقط إن لم يتغلب ملله وفضوله في هذه اللحظة لكان النبلاء مصيبة كبيرة.

لكنه كان يعلم أن بيده منع الأمر.

كل ما عليه هو اللحاق بجلنار بسرعة قبل أن تقصد اجتماعهم مع الملك، ثم ترك الباقي لها، فهو على يقين من قدرتها على إثناء الملك عن أخذ قرار كهذا.

"لما هذا المكان كبيرًا جدًا؟" صاح بنفاذ صبر قبل أن يزيد سرعته في التحلق غير آبه بعدد الأجساد الذي يصطدم بها ليمر من خلالها تاركًا رعشة غريبة في أجسادهم.

في المقابل كان الملك الذي أنهى اجتماعه للتو مع النبلاء قد خرج من قاعة اجتماعاته يرافقه كل من مستشاره وقائد الجيش قبل أن تنضم لهما قائدة الحرس الملكي دايلن جان.

"جلالتك، أظن أن علينا النظر في طلبهم بعين الاعتبار" تحدث المستشار جابريال وينهاوس قاطعًا الصمت بينهم ثم أردف: "مملكتنا لا تقوى على التصدي لهجمات كهجمات الإريبوس، يكفي الخسائر الذي تكبدها القصر حتى الآن ويبدو الأمر حقًا يتجه لمنحدر غاية في الخطورة".

لم يعلق الملك وظل يسير بهدوء عينيه ثابتة بصرامة على الطريق أمامه بينما الخدم ينحنون بخضوع تام ما إن يمر بهم.

"جلالتك اسمح لي.. لكني لا اظن الثقة بهؤلاء هو خيار حكيم، تسليم قوة عسكرية كاملة لمثل هؤلاء الأشخاص أشبه بوضع أعناقنا أسفل أحذيتهم" باندفاع قال آرثر آمنت قائد الجيش معارضًا تمامًا رأي جابريال.

زفر المستشار بينما دلك رأسه المتعرق يشعر بضغط الموقف يصبح أصعب مع شخصية آرثر صعبة المراس والغير منفتحة على قرارات كهذه من رأيه.

حافظ أورال على صمته طيلة الوقت، وكذلك حارسته دايلن التي سمعت الحديث وبالرغم أنها لم تدرك عمن يتحدثون ولكنها في قرارة نفسها تعلم أن الأمر ليس بسيطًا، بل ربما يكون مرتبطًا بشكل وثيق بالفرسان وجوزفين هو أكثر ما يهمها بينهم.

توقف الملك فجأة عن السير بينما عينه وقعت على الممر المظلم على يمينه، وقف مرافقيه يحدقون حيث ينظر لتقع أنظارهم على جوزفين الذي بدا غير مبالي بأي ممن حوله.

أغمضت دايلن عينها بأسى وأقد أخذت نفسًا عميقًا، التفتت نحو كل من جابريال وآرثر وطلبت منهما باحترام الرحيل الآن وسترسل في طلبهما عندما يأمر الملك.

كلا الرجلين تبادلا النظرات قبل أن يلاحظا العقدة الضخمة التي تشكلت بين حاجبي أورال لذلك انحنى كل منهما بهدوء مستأذنين من الملك والتفت كل واحد في سبيله. التفتت دايلن تنظر نحو جوزفين الذي وقف في مكانه ما إن لاحظ وجود والده، التفتت تتأكد من خلو المكان قبل أن تشير لإحدى الخادمات للالتفات والذهاب من طريق آخر.

كان هذا كل ما يمكنها فعله لأجل صديقها، فمكانتها تقيدها بالعجز.

تقدم جوزفين بتعبير غير مبالي البتة وبدا وكأنه لا يملك مزاجًا حتى لإزعاج والده بالتظاهر والابتسام، انحنى على مضض ونظر لأعين والده قائلًا: "الفرسان في انتظار جلالتك في غـ.." قُطِعت جملته بصوت أورال الصارم قائلًا: "ألم أمرك بعدم الذهاب لهذا القسم من القصر إلا بإذن مني؟"

أخذ جوزفين نفسًا مدركًا أن لا طاقة له لهذا الجدال لذلك قال: "أعتذر من جلالتك، ولكنه كان أمر جلالتها" تقدم بانفعال ممسكًا بعنق قميصه يسحبه بعنف وقد كشر في وجه ابنه قائلًا: "أنا الآمر الناهي في هذا القصر، ستأخذ أوامرك من ملكك فحسب".

ظلت عينا جوزفين تحدق بوجه والده المنفعل بلا أي تعبير، كان يعلم أن لا سبب معين لغضب والده لهذا الحد، لكنه فقط اختار دائمًا افراغ توتره الناجم عن عمله عليه.

"أمرك سيدي، أي أوامر أخرى؟" كانت لهجة السخرية واضحة حتى وإن حاول اخفائها وشيء في بروده كان يزيد من حدة موقف والده، دفع به بعيدًا ليرتطم ظهره بالجدار قبل أن يبصق حديثه قائلًا: "لا تكن حالمًا، تلك المرأة ما كانت لتطلب لقائك، من الواضح أنها أرادت رؤية أيديّن لذلك.." اقترب منه يحدق بعينه مردفًا: "هل أخبرتها بالضبط أين هو؟".

انقبض فك جوزفين وهو يحدق بعين والده وقد بدا الانفعال ينال منه ولكنه ما لبث حتى شعر بألم قوي يلسع وجنته جراء الصفعة التي تلقاها وقد التف وجهه بقوة للجهة الأخرى.

"إن نظرت نحوي بهذه الطريقة مجددًا فسأقتلع عينيك من مكانها أيها النكرة" قال بحدة من بين أسنانه قبل أن يتخطى جسد جوزفين الواقف في مكانه وقد تناثرت خصلات شعره فوق وجهه تغطي عينه.

مرت دايلن بجواره وقد أبطأت خطواتها لوهلة، رغبة كبيرة في مواساته كانت توقفها ولكن واجبها كحارسة ملكية دفعها لعض شفتيها بقوة والإسراع خلف الملك بخطواتها.

الموقف كله بدا تافهًا، لا سبب حقيقي يدفع والده لفعل ما فعله، كل شيء بدا مبالغ فيه فكل ما فعله هو فقط الظهور في وجه والده ولكنه تلقى صفعة جراء ذلك.

"يبدو أنه اشتاق لي بالفعل" تمتم جوزفين بسخرية قبل أن ترتسم ابتسامة على شفتيه ولا يعلم بالضبط ما الذي يضحكه ولكنه لم يتمالك نفسه حتى غطى فمه يحاول كتم ضحكاته وقد بدأت عينه تدمعان لشدة الضحك. حاول التقاط أنفاسه قبل أن يعيد خصلات شعره الشقراء للخلف.

دلك وجنته بخفة وقد تابع طريقه قائلًا: "تبا لازال ذلك العجوز يملك يدًا قوية".

على الطرف الآخر كانت الساحرة الصهباء تستند على جدران أحد الممرات ممسكة بكأس كبيرة من الماء، تجرعته كله دفعة واحدة تشعر بالعطش يكاد يمزق حلقها، مسحت فمها ملتقطة أنفاسها قبل أن يُعاد الكأس ليمتلئ مجددًا وتشربه بالكامل.

"أكره الآثار الجانبية لتلك التعويذة" صاحت من بين أنفاسها ممسكه بعنقها قبل أن تعود لشرب الكأس الثالثة. فما إن خرج جوزفين من الغرفة أخيرًا، انطلقت مسرعة قبل أن تُغلَق الأبواب مجددًا ولكنها ابتعد عنه عند أحد المنعطفات عندما أدركت أنها لن تكون قادرة على تجديد تعويذتها مجددًا.

صوت الخطوات الذي صدح يقرع في المكان دفعها لرفع عينها تنظر لصاحبها وما لبثت حتى دحرجت عينها بملل.

"ما الذي تفعلينه هنا؟" هتفت دايلن بينما وضعت يدها فوق مقبض السيف متخذه وضعًا دفاعيًا أمام الملك الذي حدقت عينيه باستعلاء بوجه ثونار التي لم يتسنَ له نسيانها منذ لقائهما الأخير.

"هوني عليكِ، تعلمين أن أفضل سيوفكم مجتمعة ما كانت لتتمكن من خدشي حتى" وبالرغم من أن كلامها يبدو مبالغة ولكن شيء في لامبالاتها جعل الجملة تخرج كحقيقة لا ثقة زائدة.

"غرفة انتظار الضيوف في الجهة الأخرى من القصر سيـ.." قاطعتها ثونار قائلة: "أدرك ذلك، لقد شعرت بالملل وأخذت أتنزه في الأرجاء، والآن أن توقفتِ أنت والسيد عن اعتراض طريقي، فسأعود من حيث جئت".

ارتفع حاجب أورال وبدت دايلن تفقد صبرها "تحدثي باحترام في حضور جلالته؟" برزت شفتيها رافعه كلا حاجبيها متسائلة: "جلالة من؟ عمن تتحدثين؟" انفرجت شفتا دايلن وقد اتسعت عينها بدهشة قبل أن تلقي نظرة مرتبكة نحو أورال فاختبار صبره ليس ما تريده اليوم.

كان من الواضح لأورال أنها تعبث بأعصابهما ليس إلا لذلك قال بلا مبالة: "لا أملك وقتًا للعبث مع امرأة لم تتعلم حتى آدب الحديث، فليدلها الخدم لتعد من حيث جاءت". بدأت ابتسامة ثونار ترتسم قبل أن تملأ كأسها مجددًا وتتجرعه ثم تتمتم "الحديث معكم يتطلب الكثير من الماء".

"أنا أمازحك، كيف لي ألا أعرف جلالته، فصوره في جميع أرجاء القصر كفيلة بإخباري من يكون" لم يكن هناك مجال لإخطاء السخرية اللاذعة في طريقتها ولسبب ما شعرت دايلن أنها إن لم تبتلع رغبتها في الضحك فستجد رقبتها تحت حد السيف خلال ثوانٍ.

تقدم أورال متخطيًا جسد حارسته قبل أن يقف وجهًا لوجه مع ثونار التي لم تأبه بوجوده وتجرعت كأسها مجددًا. كانت ذكرى لقائها مازالت لم تغادر ذاكرته، أن تتحدى امرأة سلطته وتدفعه لذهاب كانت لاتزال حقيقة تزعجه.

"ربما كنتِ محقة في المرة الأخيرة، لسنا قادرين على تحمل حرب ضد الساحرات، لكنك على أرضي، أي أن إهانتك هنا لملك تعتبر رغبة في إعلان حرب ضد مملكة مسالمة، ومما عرفته لستِ ساحرة محبوبة جدًا من ملكتك لذلك أظن أن إعدامك سيكون أسهل لها من تحمل صداع كالقتال ضدنا، لهذا حتى ذهابك من هنا، فالتعرفِ مقامك جيدًا أيتها اللعينة واحشري لسانك داخل فمك عندما يتحدث الرجال".

ظلت تحدق بعينيه الباردتين، لا مشاعر فيهما أكبر من تقديس الذات، وشيء ما في تلك النظرات كان يشعل شرارة قديمة حاولت إخمادها منذ تعرفت على الفرسان تاركة عالم الماجي خلفها.

ابتسامة خبيثة أخذت ترتسم فوق شفتيها وقد أظلمت عينها لوهلة ولم تزحمها لثانية عن عينه، اترجف جسد دايلن ولا تعرف كيف ومتى ولكنها شعرت فجأة وكأن الجو أصبح أكثر برودة وظلامًا، وكأنهم انتقلوا في ثوانٍ لبعد آخر.

"إذًا حاول حشر لساني داخل فمي جلالتك" بصقت كلمة جلالتك كإساءة، ظل أورال يحدق بعينها وشعور من الرهبة بدأ يتسلل داخله، لم يرهب أعتى فرسانه قوة ولكن شيء في تلك العينين يحمل شرًا غير طبيعي.

"في ذلك اليوم لم أكن أحذرك من حرب ضد الساحرات جلالتك، لقد حذرتك من حرب ضدي أنا، وهذا هو تحذيري الثاني، لكنني أكره تكرار حديثي لثلاث مرات، لذلك اختر كلماتك بحكمة المرة القادمة". كان جسد دايلن يرتجف بشدة وكأن الهواء بالكامل مسموم..

استندت على الجدران بينما تنظر بصعوبة لملكها الجامد في مكانه وكأنه غير قادر حتى على النظر بعيدًا.

وفجأة خلال ثوانٍ شعرت وكأن كل شيء اختفى، الضغط في الجو، الهواء الثقيل أصبح أخف، وكأن فجأة الشمس أشرقت والضوء عاد ينتشر في المكان.

نظرت بفزع نحو الساحر تحول فهم إن كانت تتحكم في عقولهم أم أنها شكلت وهمًا قويًا ولكن تلك المرأة لم تنطق بتعويذة واحدة.

وهنا طرق سؤال واحد في ذهنها..

أهذه نبذة من قوة فارسة الساحرات الحقيقة؟

كأن الأمر شعوذة لا سحر ولكنها أدركت أن عليها تدارك الأمر بسرعة لذلك انطلقت تقف كحاجز بينهما ولم تنكر أنها لأول مرة في حياتها تشعر بالخوف لنظر في عين أحدهم.

لكن على عكس توقعاتها كانت نظرات ثونار عادية وهادئة "لا داعِ لكل هذا القلق، ما كنت لأمس أحد أفراد عائلة جوزفين بأذى، تقريبًا" تمتمت بكلمتها الأخيرة قبل أن تتجاهل كلاهما متخطية جسدهما في نية العودة من حيث جاءت.

كان أورال لازال واقفًا مكانه يحاول تحليل ما يحدث، تفسيره الوحيد أن تلك المرأة سحرته وإلا ما كان ليخشى شيئًا منها ولكن في قرارة نفسه كان يعلم أن شيء غريب يدور حولها.

"جلالتك" أجفل عندما نادته دايلن وعندما كاد يتحرك توقف عندما سمعها تقول: "أملك فقط سؤالًا واحدًا أيها الملك". التفتت دايلن نحوها بحذر ولم يكلف أورال نفسه النظر نحوها.

"هل قتل جوزفين أخاه فعلًا؟".

أخذت دايلن وقتها لإدراك السؤال الذي سمعته بينما أخذت عينها في الاتساع بصدمة، وعندما تأكدت أنها سمعت السؤال بشكل صحيح كشرت أنيابها وقد سحبت سيفها بسرعة مرعبة موجهة نصله نحو عنق ثونار قبل أن تزمجر "كيف تجرؤين!".

حدقت ثونار بها ببرود تشعر بحد النصل البارد يلمس بشرة عنقها، لا يمكنها إنكار إعجابها بالمرأة، فبالرغم من خوفها من ثونار منذ دقائق مدركة مقدارًا من قوتها، إلا أنها أشهرت سيفها بكل شجاعة عندما تطرق الأمر لجوزفين.

"أنزلي سيفك دايلن" أمر أورال بهدوء ولكن الأخيرة كانت تحدق بثونار بشر وغضب ليكرر الملك بصوت أعلى "دايلن!". حاولت التحكم في انفعالها وأعادت سيفها بهدوء نحو غمده، ولكن عينها لم تفارق وجه ثونار.

"نعم، لقد قتل صديقك البريء أخيه عندما كانا أصغر سنًا" طحنت دايلن أسنانها ضد بعضها ما إن سمعت إجابة أورال ولكنها لم تملك سوى الوقوف والاستماع.

تقدم أورال مجددًا نحو ثونار قائلًا: "أنه ليس بريء كما يبدو لك، وليس مجرد أحمق، صديقك يطمع في عرشي منذ أن كان طفلًا، وقد أعماه طمعه حتى قتل شقيقه الأكبر أيديّن أورال متسببًا بدمار هذه العائلة" كانت ثونار تحدق بكل تعبير يصدر منه عندما كان يتحدث.

تستمع لكل كلمة بهدوء دون مقاطعة لذلك تابع أورال: "جوزفين ليس إلا تجسيدًا للغير والطمع، لذلك احذري مرتين قبل أن تدافعي عن أيًا من يكن".

وبهذا التفت تاركًا المكان كله، تقدمت أيلن من ثونار واقفة أمامها وجهًا لوجه قبل أن تقول من بين أسنانها: "لا أعلم كيف تبدو حياة الآخرين لك ولكن، أن أردت العبث لتسلية وقتك فابتعدِ تمامًا عن حياة جوزفين، إن عبثتِ مع هذا الرجل فأنا من ستقف لك ندًا لند".

ارتفعت زاوية شفتي ثونار بابتسامة جانبية "تُعجبني النساء القويات حتى أمام الموت".

في العادة كان ليستفزها سلوك كهذا، ولكن هذا الاندفاع كان لأجل جوزفين لذلك لم تمانع هذا السلوك العنيف "لا تنظري نحوي بهذه العدوانية، فلست أنا من عليك القلق منها، أردت التأكد من شيء ما فحسب، أما الحكاية فقد أخبرني جوزفين عنها منذ وقت طويل".

ملامح التفاجؤ كانت واضحة كالشمس على وجه دايلن "كـ..كيف؟" ارتبكت لترفع ثونار كتفيها قائلة: "أخبرني جوزفين سابقًا ولكنني أملك شكوكي الخاصة لذلك، أن كنتِ تريدين حماية أميرك، أحرصي ألا يتضارب وجوده مع وجود أحد والديه حتى نذهب من هنا".

لقد ظنت أن المتعة كلها في مشاهدة هذا الاصطدام، ولكن بعد قضاء فترة الصباح كلها في غرفة مغلقة مع النسخة السوداوية من جوزفين، فكل ما تريده هو إخراجه من هنا في أسرع وقت.

"ما الذي تريدن بالضبط؟". لم تتمكن دايلن من فهم أفكار وشخصية وثونار، لا تعلم إن كان عليها الحذر أم الارتياح "لا شيء، كل ما أريده أن يمر اليوم دون أن أشعر بالملل" أجابت ببساطة مسببة زيادة ارتباك دايلن.

قررت ثونار ترك هذه المحادثة فأوكتيفيان الآن يكاد يكتب موسوعات في طرق قتلها بعد أن أدرك أن لا وجود لاستراحة مرحاض ستأخذ منها هذا العدد من الساعات.

"الحقي بسيدك، وأرجوك أخبريه أن يعقد اجتماعه معنا قبل أن يقتلني قصركم مللًا" صاحت وقد وصلت بالفعل نهاية الرواق تاركة دايلن واقفة وحدها في حيرة من أمرها.

أثناء طريقها للعودة، غرقت ثونار بين أفكارها، لا تعلم بالضبط بمن عليها التفكير، فكما يبدو جميع سكان هذا القصر معاتيه، بداية من الملك والملكة وصولًا للخدم الذين يبدون كآليين ولكن نظراتهم نحو الأمير ليست عادية.

"ويقولون عني مجنونة!" تمتمت بينما ترمق أحد الخدم بطرف عينها وهو يمر بجوارها دون أن تطرف عينه حتى.

بدأت تتشكل صورة في عقلها حول هذه العائلة، من يدير هذا المسرح ومن يلعب دور المشاهد ومن الدمى في هذا المكان ولكن يبدو وكأن لازال هناك أمر مفقود، جوزفين الذي يتحدث عنه الجميع لا يتمشى تمامًا مع الشخص الذي تعاملت معه.

ليست بحمقاء حتى تخطئ تمثيل أحدهم دور البراءة، وإن كانت لا تثق بإحساسها فثقتها بسحرها -الذي كشف مشاعره كلها لها- لا مجال للشك به.

توقفت أمام مدخل قاعة الضيافة وقد أزعجها شعور العطش مجددًا مما دفعها لاستحضار كأس من الماء مجددًا وشربه كله.

دفعت الكأس الزجاجي في يد أحد الخادمات التي حدقت بالكأس ثم بثونار بتعجب بينما الأخيرة كانت قد ابتعدت بلا مبالة متجهة للدخال.

"أين كنتِ بحق إله الجحيم؟". أغمضت عينها تستقبل صوت أوكتيفيان الممتلئ بالغضب كما توقعت "لقد أخبرتك أنني في حاجة لاستخدام المرحاض!" ارتفع حاجبه تلقائيًا لردها السخيف -في رأيه-

"ساعتين!" هتف باستنكار لتدحرج عينها مجيبة ببرود "ماذا؟ ألا يمكن للمرأة أن تتعامل مع أمورها الشخصية لبعض الوقت؟" كان يعلم أوكتيفيان أنها تستخدم حججًا تدفعه لعدم الشعور بالارتياح حتى تتجنب النقاش لذلك لم يبذل جهدًا أكثر من هذا في محاولة التفاهم معها وتمتم مستسلمًا "ستخرج مصيبة من خلف هذا".

ألقت بجسدها على الأريكة بجوار زوندي وحاولت ان ترتطم عينها بجوزفين على سبيل الصدفة، كان قد سبقها في العودة وبالرغم من تأكده أن خروج ثونار كان للعبث في الأرجاء لكنه لم يكن في مزاج يسمح له بالتحقيق أو الاستفسار.

"أهناك مصيبة قادمة فوق رؤوسنا؟" همس زوندي مائلًا نحوها لتجيبه هامسة بينما عينها لازالت تنظر لجوزفين "لا يمكنني ضمن الأمر لك ولكن، صدقني هذا المكان بالكامل مصيبة".

زم شفتيه وقد عاد للجلوس باعتدال وتمتم لنفسه قائلًا: "هناك مصيبة قادمة".

ضيقت ثونار عينها عندما لاحظت البقعة الحمراء فوق وجنة جوزفين، عضت طرف لسانها تحاول منع نفسها بشدة من اللعن ولكنها لم تتمكن من ذلك كثيرًا لتمتم "ذلك الحقير، كان علي صفعه".

التفت زوندي نحوها بسرعة بأعين متسعة مسببًا تدحرج عينها لتصيح جاذبه أنظار الجميع "ليس أنت".

وقبل أن يسأل أحدهم دلف أحد الخدم للمكان يدعوهم جميعًا للاجتماع، نهضوا بسرعة أجفلت الخادم وكأنهم في حاجة للانتهاء من الأمر.

"ألا تظنون أننا نسينا العنصر الأهم؟" هتفت ثونار لترطم كف أوكتيفيان بكتفهما بما يشبه الصفعة أكثر من كونها تربيته وقال "أرسلت أحدًا لإيقاظها منذ مدة، إن كنتِ هنا لعرفتي بالفعل" تأوهت مدلكة كتفها قبل أن تتمتم "لما العنف إذًا؟".

"بالحديث عنها.." تمتم أوكتيفيان بينما تتفحص عينه المدخل في انتظار رؤيتها ليبتسم بارتياح ما ان تظهر في ذات اللحظة وقد بدا وجهها أكثر إشراقًا وعادت نظراتها المنتعشة.

"لم أتأخر؟". التفت نحوها الجميع لتتسع ابتسامتهم تلقائيًا وتركض نحوها ثونار محيطة عنقها بذراعها قائلة: "أرجوك دعينا ننتهي من هذا كله ونعود" زمت جلنار شفيتها قائلة: "لما العجلة، سنعود لتدريبات الأكاديميه". بدت ثونار كمن نسي هذه الحقيقة من تعبير وجهها الذي تبدل تمامًا.

"توقفي عن التعامل مع قائدك وكأنها صديقتك أمام الجميع" ذم أوكتيفيان فعلة ثونار ما إن مر بجوارهم مسببًا تدحرج عينها.

"استرح قليلًا سيد رسميات حتى لا أحيط أنا عنقك بذراعي" مازحته جلنار ولكن الأخير أخذ حديثها بجديه ليبتعد عنها بسرعة مسببًا ضحكها.

"حاول التحكم بتعبيرك" همس زوندي بينما يميل نحو أتريوس مشيرًا لابتسامته، ولكن تبدل تعبير أتريوس لأخر جامد وقد رمقة بنظرة حادة ذكره أنه ليس ودودًا بشكل كامل لذلك نظف حلقه وسبقه بخطوات ولكنه لم يقاوم ابتسامته عندما لاحظ أنه لم يرميه بأي تعليقات لاذعة "هناك تقدم".

في ذات اللحظة كان يوجين يحدق بغرفة جلنار الفارغة يحاول تمالك أعصابه "لقد اتبعت اثرك خلال القصر كله نحو غرفة فارغة؟" صرخ بغضب قبل أن يركل الطاولة الصغيرة بجواره مسببًا وقوع ما فوقها.

قفزت الخادمة التي دلفت المكان للتو قبل أن تحدق بالطاولة بأعين متسعة.

التفت يوجين ومر من خلالها مخلفًا رعشة سيئة عبر جسدها دفعتها للالتفات وترك الغرفة بأسرع ما تملك بفزع.

حلق يوجين بأقصى سرعته غير مبالي بعدد الأجساد الذي يمر من خلالها بينما يحاول بصعوبة تتبع أثر قوة جلنار خلال المكان.

"لما غرفتها على الطرف الآخر من هذا القصر" صاح بينما يأخذ منعطفًا ليتوقف للحظة يحاول رؤية الخط الذهبي الصغير الذي يقوده لها.

"تبًا، تبًا، تبًا" تمتم بعصبية ما إن سمع أحد الخدم يثرثر مع رفيقه حول بدا اجتماع ثانٍ للملك.

في ذات اللحظة كانت جلنار تأخذ مكانها فوق مقعدها وقد جلس أمامها أوكتيفيان يومئ نحوها بابتسامة صغيرة وجدتها مشجعة مما دفع التوتر عنها قليلًا.

نهض الجميع واقفًا ما إن دلف الملك أورال للمكان بصحبة حارسته الشخصية وبالرغم من أن جلنار التقت به من قبل في اجتماع الملوك ولكن لا يمكنها إنكار هالته القوية في مكانه الخاص.

كان من الواضح أن قوة الرجل ليست بمزحة، تعبيره الجامدة، جسده القوي، وهالة قوته التي التفت حول جسده بهدوء دفعت جلنار لرفع حاجبها ببعض التعجب.

لا تدرك متى أصبح بإمكان عينها التقاط شكل هالة القوة حول الجسد، ولكنها متأكدة أن هذه مرتها الأولى، بدا الأمر وكأن عينها تشوشت لثواني قبل أن تعود لوضعها الطبيعي، ولكن الشعور بهالته ورؤيتها أمرين مختلفين.

وقف أمام مقعده قبل أن تتفحص عينه وجوه الجميع، وقفت عينه لثواني فوق وجه ثونار التي بادلت نظراته ابتسامه جانبية لا مبالية ليبعد ناظريه عنها ويجلس فوق كرسيه بينما استقرت حارسته بجوار مقعده وقد أخذت خطوتين للخلف بتعبير جامد.

لم يفت الأمر جوزفين الذي التفت بشكل بسيط نحو ثونار ولكن الأخيرة ظلت تحدق بوالده بكراهية مما دفعه لمحاولة ضبط أعصابه فلم يكن من الصعب إدراك أن اختفاءها صباحًا وهذه النظرات الآن تحمل رابطًا وثيقًا.

جلس جميع الفرسان بعد أن سمح لهم أورال بذلك، أخرجت جلنار نفسًا متوترًا قبل أن ترفع عينها نحو أوكتيفيان تطالبه بتولي الحديث مبدئيًا على الأقل.

أمسكت بكأس الماء القابع أمامها في ذات اللحظة التي أمسك ثونار بخاصتها لتشرب كل واحده كأسها ولكن لأسباب مختلفة.

حاول أورال تجاهل نظرات ثونار وتناسي ما حدث منذ قليل، وركز انتباهه على ابنة التوبازيوس، لازال يتذكر آخر اول اجتماع حضرته.

بدت ذات هالة مختلفة، الآن تبدو أكثر.. توترًا

توقع المزيد من التعبيرات اللامبالية كالتي تظهر على وجه الفارس ذو الفأسين أو نظرات ازدراء كالتي تضعها الساحرة الصهباء ولكن بدت فقط فتاة عادية مصابة بحالة من القلق لجلوسها أمام ملك مملكة كاملة.

أراح ظهره بملل فوق كرسيه فقد خابت بعض آماله، وشيء ما دفعه لتذكر حديث النبلاء معه.

عينه اتجهت لأوكتيفيان الذي بدأ الحديث برسمية واضحة في محاولة سريعة لشرح ما حدث خلال هذين اليومين خاصة صباح اليوم في قصر أركستوراي.

لم يكن أورال يوليه انتباهًا شديدًا فكان بالفعل يعرف ما سيقوله الرجل وكل هذا ليس سوى تقاليد رسمية.

كانت جلنار تنظر لاوكتيفيان بتركيز بينما تقبض على كأسها ببعض التوتر ولكن جسدها أجفل فجأة عندما اقتحم المكان شبح صارخ.

اتسعت عينها ونظرت نحوه ومنعت نفسها بصعوبة من شتمه وإلقاء الكأس في وجهه ما إن ملأت صرخاته باسمها المكان.

وقف أمامها بسرعة متجاهلًا نظراتها الغاضبة وصاح "لما من الصعب علي إيجادك بحق الإله؟" ارتفع حاجبها وحاولت تفادي النظر نحوه فجفلة جسدها كانت واضحة نوعًا ما.

"عليك الاستماع لهذا، لن تتمكني من التخمين من كان يجلس على نفس هذه الطاولة مع نفس هذا الملك منذ نصف ساعة فقط" صاح مشيرًا نحو أورال مسببًا استغرابها.

عقدت حاجبيها متسائلة عما يحدث ليردف صائحًا "اللعينان ألفن وجلين، يمكنني الجزم أنهما لم يغادرا المملكة حتى، كان الأحمقان يقنعان الملك بمنحهم السلطة التامة على قوة هذه المملكة العسكرية، مشيرًا أنكم كفرسان لستم قادرين على حماية الممالك بعد حدث هذا الصباح واشا... أوه!".

توقف يوجين عن الحديث بينما يحدق بأعين جلنار التي أصبحت قرمزية بالكامل، فكها المقبوض كان إشارة على أن أحد ضروسها على وشك أن يطحن بينما بدا جسدها بالارتجاف غضبًا.

"أكان علي إلقاء الخبر بطريقة ألطف؟" تمتم يوجين بحذر وهو يحدق نحوها ولكنه أجفل عندما صدح صوت فرقعة قوي في المكان.

عينه المتسعة حدقت بالكأس الزجاجي الذي تفتت بين يدها قبل أن ينظر نحو أورال قائلًا: "وحده الرب من بمكانه مساعدتك يا صاح".

جميع الموجودين التفتوا نحو مصدر الصوت بسرعة وقد وجود أوكتيفيان أن كلماته ظلت عالقة في حلقة بينما يحدق بجلنار التي ظلت عينها تحدق بالطاولة بينما ترتعش حدقتها بشكل جنوني.

أراد أورال السؤال عما يحدث ولكنه احتفظ بسؤاله عندما شعر فجأة بها.. بدا وكأن أعظم تهديد على حياته يجلس بجانبه في هذه اللحظة، عينه حدقت بجلنار وفجاه تلك الفتاة الصغير الخائفة..

بدت له عظيمة الحجم، شعر وكأنه ينظر لشخص عملاق بينما هو في حاجة لحماية نفسه، حاجة قوية في سحب سلاح والوقف بعيد عنها كانت تلح عليه.

التقط بطرف عينه دايلن حارسته الشخصية يحاول اكتشاف ما إن كان بإمكانها استشعار ما يشعر به، اتسعت عينه عندما لاحظ تجمدها في مكانها، تحدق نحو جلنار بحدقتين متسعتين وبالرغم من يدها التي تمسكت بسلاحها فورًا لسحبه ولكن ظلت يدها ترتجف بينما وجهها بالكامل غزاه العرق.

حاول تمالك نفسه وقد استعاد ثباته ليرفع كف يده بحركه بسيطة نحو دايلن حتى تهدأ وسأل بهدوء "هل أنتِ بخير آنسة روسيل؟".

لم يفهم أحد لما نوبة الغضب تلك ولكنهم ابتلعوا أسئلتهم جالسين بهدوء يحاولن إدراك ما حدث، شخص واحد بدا وكأنه يملك فكرة عما يحدث.

أتريوس يدرك أن الأمر يمس النبلاء، لا تغضب هذه المرأة لهذا الحد إلا إذا كان الأمر يمسه ذكرهم ولكن لما هنا والآن بالذات، هذا تمامًا ما لم يفهمه.

"أنا بخير، أعتذر عن هذا" ارتفع حاجب أورال عندما التفتت نحوه جلنار بابتسامة صغيرة بينما تنفض باق الزجاج المحطم عن كف يدها وهي تنظر نحوه بأعين حمراء كالنيران، بدت تحارب بشدة رغبة القتل الذي ترودها وظل هو لا يعرف أن كانت حياته في خطر في هذه اللحظة أم لا.

"لا بأس بإمكان الخدم تنظيفها في أي وقت" قال مشيرًا لحطام الكأس لتومئ جلنار بهدوء.

ارتفعت زوايا شفتي جوزفين بينما يراقب اختلاف طريقة تصرفات والده الآن مع جلنار، لا يعرف أن كانت جلنار فعلت ما فعلته عمدًا أما لا ولكنها فعلت الشيء الوحيد الذي يحترمه والده وهو إظهار القوة.

الآن فقط سيأخذها على محمل الجدية وهذا ما كان يقلقه من البداية ولكن يبدو أن جلنار قادرة على تدبر أمرها لوحدها.

وبين حيرة الجميع كانت جلنار تحاول العد من المئة بشكل عكسي حتى تهدأ ولكن وجدت نفسها تشعر بنوبة الغضب تتجدد ما إن تفكر في فعلة النبلاء.

الجراءة التي تدفعهم للقدوم في ذات اليوم الذي جاء فيه الفرسان، بل والتواجد في ذات المكان دون خوف من مساءلة أو عقاب، حرية الأفعال تلك كانت تدفعها للحافة.

استصغار تضحيتهم بحياتهم طيلة الوقت التقليل من جهودهم بالكامل، كان كل شيء يستفز مشاعرها ويدفعها للغضب أكثر ولكنها حاولت تمالك نفسها. اللعبة ضدهم لا تحتاج انفعالًا، عليها التصرف بذكاء في هذا الموقف.

ما قاله يوجين جعل من الواضح لها موقف أورال الآن، وجوده هنا بينهم ليس سوى محاولة أخيرة لتأكد من قراره، ولا يمكنها صفع الأمر في وجهه قائلة إنها تعرف حيلة النبلاء، فأبسط ما قد يحدث هو اتهام الإلترانيوس بالتجسس على شؤون مملكة مجاورة.

حاولت تمالك ارتجاف يدها والتفكير بعقلانية عوضًا عن الخروج من المكان والبحث عن ألفن وجلين والتخلص منهما نهائيًا.

الامر الجيد أن قرار كهذا لابد أن ينفذ تحت شروط معينة وبعد تفكير طويل، فلن يلاقي هذا الأمر استحسان من الشعب، حتى بجهلها بطبيعة شعب المتنكرين ولكن الأمر بديهي، لا أحد سيقبل أن تتحكم طبقة معينة من مملكة أخرى بقوة وطنهم العسكرية.

سمعة النبلاء -كما فهمت من الجميع- لا تلمع أيضًا في باقِ الممالك.

كان من الواضح أن أوكتيفيان حاول السيطرة على الموقف الذي حدث منذ دقيقة واضعًا اللوم على الضغط الذي تعرض له الفرسان وبالرغم أنه من الواضح أن أحدًا لم يقتنع بحجته خاصة حارسة الملك الشخصية التي لم تزح عينها لثانية من على جلنار ومازالت ممسكة بمقبض سيفها إلا أن أوكتيفيان أكمل تقريره على أي حال.

"إذًا، لم تتمكنوا من منع وجود أحد هذه البوابات في النهاية" علق أورال أخيرًا بعد أن أفرغ أوكتيفيان ما في جعبته، حدق به الجميع بصمت وجمود، ووجدت ثونار نفسها هذه المرة تشعر بالغضب من جديد لذلك قالت من بين أسنانها "لقد أغلقنا أحد هذه البوابات، لم يصب أحد من بني جنسكم بأذى وعلى العكس كان أحدنا ليذهب ضحية في سبيل أيقاف هذه الكارثة".

لم تنسَ ثونار حتى الآن المظهر الذي واجهته ما إن عادت، كل من جلنار وأتريوس واقفان أمام البوابة لمنع أي كارثة من الحصول حتى وإن كلفهما الأمر حياة أحدهما لذلك أثارت طريقة تفكيره غيظها بشدة.

"أوليس هذا دوركم في الأساس؟".

لم تظن ثونار أن هناك ما يمكنه الضغط على أعصابها كما يفعل هذا الرجل، وعندما كادت تنفجر في وجهه أوقفتها يد جوزفين التي أمسك بيدها بهدوء تحت الطاولة، حدقت نحو نظراته التي لم يوجهها نحوها ولكن يده التي ضغطت على كفها كانت ترسل رسالة واضحة وهي أن تبقي ما في جعبتها حيث هو.

"أنت محق جلالتك، إنها بالفعل مسؤوليتنا" جذبت جلنار انتباه أورال مجددًا عندما أجابت بكل هدوء -غير متوقع- رفعت رأسها عن الطاولة قبل أن تقابل عينيه بجراءة مردفه: "وقد قمنا به على أكمل وجه، بوابة كتلك ما كان ليتمكن مئات الجنود من إغلاقها، كل ما كان بإمكان قوة عسكرية فعله هو محاولة تقليل الضحايا في مقابل التضحية بأنفسهم".

وجد أوكتيفيان نفسه يأخذ نفسًا مرتاحًا مع كل كلمة تقولها جلنار ومنع نفسه من الابتسام بصعوبة، حدق بوجهها بارتياح وبالرغم من قلقه من انقباض فكها الواضح إلا أنها كانت تحاول بجد السيطرة على أعصابها.

ربما يبدو أورال قاسيًا، ولكن خلفية أوكتيفيان العسكرية تدفعه لتفهم مثل هذا التصرف، لن يتصف مسؤول بالتعاطف أو الاهتمام بالفرسان، كل ما يهمهم هو أن يتم إنجاز العمل، أن ينقذ مملكته ونفسه، وهذه بالفعل وظيفتهم.

أثار استحسانه كثيرًا تفهم جلنار لهذه النقطة بسرعة -شيء لم يتوقعه-

"ما الذي ترمين إليه؟" لم يكن أورال محبًا للحديث المشفر، كان رجلًا يفضل أن تُلقى الحقيقة في وجهه ولهذا ابتسمت جلنار وأجابت "لم أرمي لشيء، لقد تحدثت بكل صراحة، كان من الواضح أنك تشير في حديثك أن وجودنا بلا فائدة، وأردت إيضاح العكس، تمامًا كما حدث في معركة أراضي الحدود".

جذبت كلماتها انتباهه بشدة، وهذا ما دفعه لاعتدال في جلسته يحاول فهم إلى أين هذه الفتاة تقود اجتماعه.

أما جلنار فقد وجد الرضا طريقًا لها ما إن لاحظت استيلائها على فضوله "حينها كان من الواضح أن بعض من الأشخاص ذوي المكانة على اختلاف مع طريقة قيادتنا لهذه المعركة، لقد أصابت المملكة مصيبتها الأولى بسبب سوء الحكم على الأمور.."

أخذت جلنار لحظة من الصمت الدرامي وقد انعقد حاجبيها في ألم لم يتمكن الفرسان من تبين إن كان حقيقًا أم تمثيل متقن في حاجة لجائزة للاحتفال به.

"لقد كنا نقود المعركة بنجاح، قوتنا كفرسان كانت تضاهي قوة مئات من جنود الإريبوس الملعونين وقد كانت قوات الإلترانيوس العسكرية ذات عونًا كبيرًا لنا ومع ذلك.." أخذت نفسًا بينما تعلم أن مع كل لحظة صمت كانت تجذب فضوله وتشعل فيه بذور الشك.

"قرر أحد النبلاء سحب قوته العسكرية عن جهة كاملة من أراضي السكان المساكين، لا أعلم إن كان سوء تقدير للموقف أم أنه قرار ناتج عن رؤية أنانية ولكنه كلفنا الكثير، ولكن حمدًا لله فهؤلاء الفرسان.." رفعت رأسها تنظر لكل واحد فيهم بامتنان كاد يدفع أتريوس للانفجار ضحكًا "هؤلاء هم من تمكنوا من استعادة ما خسرناه جلالتك".

إن كان أوغاد النبلاء سيلعبون بمكر، ليكن إذًا، هذا كل ما كان يدور داخل رأسها.

"ايتها الثعلبة! لقد أعطيته قرارًا على طبق من ذهب، تمامًا وكأنك تقولين إن ذهبت مع النبلاء، فسيضحون بك وبقواتك العسكرية في سبيل أنفسهم كما فعلوا مع شعبهم نفسه" أرادت ضرب قبضتها بقبضة يوجين متفقة بتفاخر ولكنها أجلت ذلك لوقت آخر.

"إذًا، أتريدين أخبار أن النبلاء كانوا سبب خسارتكم المعركة الأولى؟" استفسر بحاجب مرفوع وكادت تصيح جلنار بـ: بنجو ولكنها عضت شفتيها وتمالكت حماسها.

رفعت عينها بارتباك واضح وقالت: "إلهي.. لم أقصد ذلك أنا.." وجهت نظراتها المرتبكة نحو أوكتيفيان كونه النبيل الوحيد بينهم قبل أن تبتلع وكأنها ورطت نفسها بذلة لسان لم يكن من المفترض قولها "لنقل فقط أن بعضنا يأخذ قرارات سيئة لأجل رغباته الشخصية في مواقف حاسمة".

تمالك أوكتيفيان فكه من السقوط بينما يحدق بارتباكها وتجنبها تصادم نظراتهم، هذه المرأة لم تكن لتكترث بخلفيته فهو ينام ويستيقظ يوميًا على لعنها لنبلاء بدل من قول صباح الخير له.

"ما اريد إيصاله جلالتك، ربما لا يبدو تأثير الفرسان قويًا في نظرك، ولكننا قوة لا يستهان بها، جلالتك فقط لم يرى بأم عينيه". ظل يحدق بوجهها بينما يفكر أنه يشعر نوعًا ما أنه شهد على تلك القوة، فاليوم وحده امرأتين من الفرسان أشعرتاه بالتهديد دون التلويح بأي سلاح.

أومأ برأسه بصمت قبل أن يلقي نظرة عليهم جميعًا قائلًا: "أهناك أي شي آخر يجد بي معرفته؟" بصمت وابتسامة رضى أراحت جلنار ظهرها ضد مقعدها وفي المقابل أجاب أوكتيفيان نافيًا.

"لنقل إذًا أنني أضع ثقتي بقرارات الفرسان مؤقتًا" قال موجهًا أناظره لجلنار التي أومأت بامتنان "بإمكانك تبليغ أميرة الإلترانيوس بهذا".

نهض من كرسيه معلنًا انتهاء هذا الاجتماع "كضيوف القصر الملكي، فأسألكم الانضمام للمائدة التي حضرها الخدم باهتمام، سأتكلف بإرسالكم حيث تحتاجون حتى عودتكم للإلترانيوس". نهض الجميع واقفًا يراقبون ظهره خلال خروجه من المكان وكان من الواضح للجميع أن خلال الاجتماع كله حتى نهايته كان يتعامل مع حقيقة وجود جوزفين وكأنه غير موجود.

ولكن لم يعلق أحد بكلمة مفضلين الفصل بين العمل وحياة أحدهم الشخصية.

"حسنًا جميعًا، كونوا ضيوفنا على الغداء" بكل حيوية صاح جوزفين صافعًا الطاولة بيده ما إن غادر أورال القاعة وكأن شيئًا لم يحدث.

"سمعت الكثير عن ولائم قصر أورال الملكي" قال زوندي بابتسامة محاولًا إزاحة توتر هذا الاجتماع ليحيط جوزفين كتفيه قائلًا: "سنبهرك يا صديقي".

حدقت بهم جلنار بابتسامة تشعر ببعض الارتياح لتمكنها من تدارك مصيبة كادت لتحدث، أرادت بشدة احتضان يوجين لنجدته فلولا فضوله لما عرفت بأمر النبلاء أبدًا.

"أعلم أنك تريدين شكري، وفريها حتى عودتنا" كادت تلتف بسرعة نحوه ولكنها منعت نفسها في اللحظة الأخيرة "أيمكنك قراءة العقول الآن؟" تمتمت بانزعاج لتتسع ابتسامته قائلًا: "سمعتك".

"بما تتمتمين بحق الله؟" عينها اتجهت نحو أوكتيفيان لتضع ابتسامة واسعة بريئة "لا شيء، فقد أفكر كم كان يومًا غريبًا" أومأ متفقًا بينما يراقب حماس الفرسان لطعام "الأغرب بحق هو ردود فعلك منذ قليل" تجمدت متذكرة أن لا أحد يعلم عن وضع النبلاء.

راقب يوجين الوضع باستمتاع ينتظر حجة جلنار القادمة "حسنًا لنقل إنني حاولت منع مشكلة من الحدوث" أجابت ببساطة ولكن إجابتها لم تدفع أوكتيفيان سوى للشعور بالفضول أكثر وأكثر.

"عما تتحدثين؟" وقفت تنظر نحوه محدقة به كبلهاء لا تعرف كيف بإمكانها الخروج من موقف كهذا.

لم يكن أوكتيفيان الوحيد المهتم فخلفهم تمامًا أسند أتريوس جسده ضد طاولة الاجتماعات وقد انصب تركيزه على محادثتهما، كان يملك تخمين جيدًا عن سبب غضبها ولكنه لم يفهم التوقيت الذي انفجرت فيه!

"في الواقع، لقد كان النبلاء هنا". كانت تعرف أن لا مهرب من إخبارهم الحقيقة، فلن تكتفي فقط بدفع ملك المتنكرين لرفض عرضهم لكنها في حاجة لرد الضربة لهم.

شيء ما كان يلح عليها بأن ضرورة تدارك الأمر مهمة، فحقيقة وجودهم هنا تعني أن بإمكانهم فعل الفعلة ذاتها مع أي ملك.

ظلت تحدق بتعبير أوكتيفيان المشوش، كانت محاولاته لإدراك الأمر واضحة على وجهه وفي المقابل لم يكن أتريوس متفاجئًا فقد كان واضحًا بالفعل أن الأمر له علاقة بهم ولكن مازال يلح عليه سؤال آخر..

لما بذات في منتصف الاجتماع.

كانت تبدو بخير عندما قابلتهم قبل الاجتماع وكان مزاجها جيد جدًا لذلك احتمالية مقابلتهم اثناء طريقها لمنطقة الضيافة شبه مستحيلة.

"لما؟" سؤال واحد كان كفيل بإظهار نبرة الاستنكار في نبرة أوكتيفيان لذلك اجابت بوضوح "لتقديم طلب لجلالته.." سكتت لثواني تراقب رد فعله قبل أن تردف "يريدون إذنًا للحصول على التصرف الكامل في قوات المملكة العسكرية".

كان تركيزها منصبًا على محادثة أوكتيفيان لدرجة أنستها البقية، لم تلاحظ الصمت الذي أطبق فوق المكان ولم تلاحظ نظرات الفرسان نحوها خاصة جوزفين.

"ما الذي.." التفت ناحية جوزفين بسرعة في محاولة لشرح الأمر ولكن شعرت بلسانها معقود، نظرات جوزفين كانت مليئة بالغضب، شعرت لوهلة أنه على بعد ثانية من قتلها بالرغم من أن غضبه كله لم يكن بسببها.

"لا أظن أن علينا التوتر، فقد وضحت بشكل كامل أن بدوننا كفرسان لا يمكن لأحد حمـ.." أجفلت عندما صرخ جوزفين بغضب "هل أجتمع معهم اليوم؟ قبل اجتماعنا مباشرة؟". كان من المربك حقًا التعامل مع هذه الشخصية من جوزفين لذلك وجدت نفسها تومئ فحسب.

"لا داعي لتضخـ.." لم تتمكن من إنهاء جملتها حتى، فقد بدى غير مهتم بأي ما كان ستقوله، الغضب كان واضحًا جليًا على وجهه لذلك التفت ليخرج من المكان قائلًا: "اسبقوني لقاعة الولائم، سأقابلكم عندما انتهي من أمر ما".

لم يكن الجميع في حاجة لاستخدام ذكائهم لمعرفة عن أي أمر يتحدث، كان من الواضح وجهته ومن الواضح أن زيارتهم لن تكون مريحة البتة.

"أسبقوني أنا أيضًا سأعود فورًا.." التفت أوكتيفيان بسرعة كالبرق اتجاه ثونار وصاح "إياك ثونـ.." لم يكد يكمل جملته حتى انطلقت راكضة خلف جوزفين.

 "ثونـــــــــــــــــار" رج صوت أوكتيفيان أرجاء القاعة مثيرًا فزع كل الخدم القريبين منهم ولكن الوحيدة المقصودة لم تهتم بينما تسابق نفسها حتى تلحق بجوزفين.

"إذًا... أنذهب لتناول الطعام؟" قطع زوندي الصمت بابتسامة سخيفة ليتلقى نظرات اوكتيفيان الحادة والذي زفر في النهاية بتعب مستسلمًا "افعلوا ما تريدون، إن أردتم إشعال المملكة كلها ففعلوا، لقد ألقيت أسلحتي جميعها، أنا ذاهب لتناول بعض الطعام".

تركهم متوجهًا لخارج المكان ليحدق زوندي بجلنار وأتريوس لوهلة لترفع جلنار كتفها قائلة: "أظن أن لا شيء آخر نفعله" اتسعت ابتسامة زوندي وهمس بنبرة غنائية بينما يتجه للخارج "طعـــام".

ضحكت جلنار مستمتعة بشخصية زوندي عن قرب وقررت اللحاق بهما ولكن أوقفتها يد أتريوس التي حاصرت معصمها لتلتفت نحوه باستغراب "لدي بعض الاسئلة روسيل". ابتلعت عندما لاحظت ان هذه من المرات القليلة التي يناديها باسمها الاخير.

"ولكني جائعة!" تمتمت ببرائة تحدق به بعينين واسعتين في محاولة لاستعطافه "تعلمين ان لا شيء من هذا يؤثر علي" وقد كان، فلم تتحرك عضلة واحدة من وجهه ما سبب دحرجة عينها ولكنها ما لبثت حتى وجدت مخرجها وهذا ما دفعها لتحديق به باتهام فجأة قائلة "أنا أيضًا لدي اسئلتي".

ارتفع إحدى حاجبه يعرف أنها تعبث ليس إلا وبدون أن ينطق كلمة فهمت أنه لا يمانع سماع ما لديها.

"لما اندفعت بيني وبين البوابة صباحًا؟ ولا تُسمعني ترهات كواجبك كفارس، كلانا نعلم أنك لا تهتم، لذلك أعطني إجابة واضحة! لما؟".

دقيقة من الصمت مرت بينهما، كل واحد يحدق بالآخر وطرف ثالث كان يراقب تعبير كلاهما بحماس مفرط يكاد يقفز كمراهقة صراخًا كداعم من خلف الشاشات.

ظنت جلنار أن صمته إشارة إن سؤالها ذو دافع أحمق وغير مقنع بالمرة فقط لتفادي اسئلته لذلك كانت تقضم شفتيها بتوتر بينما تكرر داخليًا: صدق صدق صدق.

لم تكن تعلم انه يحدق بها بعقل فارغ قد توقف عن العمل للحظات، قد يبدو لها هادئًا في هذه اللحظة لكنه شعر أنه أمام نقاش ليس على استعداد لخوضه معها، يعلم أن معها كامل الحق في التساؤل وكامل الحق لمعرفة الإجابة لكنه غير مستعد، ربما غير قادر على إعطاء إجابة الآن.

لذلك أطلق سراح معصمها قائلًا: "لا تهتمِ، لا أريد أن أعرف". وهذا ما أرادته جلنار تمامًا ولكن لما جزء منها غير راضٍ؟ حدقت به بينما يتخطاها متجهًا للخارج لتخرج نفسًا حبسته ترقبًا "ما الذي حدث للتو؟" نظرت نحو يوجين مطبقة شفتيها لثواني.

"لا أعلم، أنا حقًا لا أعلم" كانت الحيرة واضحة في نبرة صوتها وهذا ما مقته يوجين لذلك اندفع وقد أحاط كتفها قائلًا: "لا تهتمي يا فتاة، هناك وليمة في انتظارنا" أمالت رأسها نحو كتفه وتمتمت "لا يمكنك تناول الطعام يا ذكي" رفع كتيفه غير مهتم وقال: "أستمتع برؤيتك تأكلين".

عقدت حاجبيها ورفعت أنظارها نحوه "هذا مريب!" ظلت ابتسامته الواسعة على وجهه مجيبًا "لا أهتم".

تحركت نحو الخارج في نية سؤال أحد الخدم عن مكان المأدبة ولكنها توقفت تحدق في الطريق المعاكس "ما الخطب؟" واجهت سؤال يوجين بنظرات يملأها الشعور بالذنب "جوزفين لم يبدو على ما يرام منذ أن قررنا المجيء إلى هنا، ولا أعلم أن كان من الصحيح سؤاله أم ترك الأمور على حالها؟".

صمت لولهة في تفكير يحدق حيث تنظر ولكنه عزم رأيه قائلًا: "لا يمكنك حل كل شيء، وليست جميع المشاكل تضمن تدخلك، ربما نيتك للمساعدة جيدة ولكنها ستدفع الأمور لتؤول للأسوأ، من رأيي عليكِ انتظار اللحظة المناسبة التي ستلاحظين ان عليك التدخل فيها".

ظلت تنظر نحو يوجين بأعين ضيقة قبل أن تقول "أحيانًا يُخفُيني تصرفك بحكمة!" ابتسم ابتسامة صغيرة متمتمًا "لا تعلمين شيئًا عني بعد" دحرجت عينها قائلة: "أنت لا تعرف شيئًا عن نفسك حتى يوجين" وتركته متجهة لأحد الخدم تسأله بينما وقف هو ينظر للفراغ بنظرات يملأها الغموض هامسًا "أنا رجل غامض بطبعي".

مرت من جواره -بعد ان رفضت مساعدة الخدم في اصطحابها وقررت الاكتفاء بوصف للطريق- وقالت له: "بل أنت رجل ميت، فاقد لذاكره".

....

كانت مع كل خطوة تخطوها ثونار تتساءل ماذا تفعل بالضبط؟ لما لحقت به من الأساس؟ كلما تعمقت في هذا القصر وكلما لحقت خطواتها جوزفين بدأت تشعر أن الأمر كله أكبر منها، لا تملك القوة الكافية لتبديل حياة أحدهم كاملة.

بدت وكأن جذور الشر متجذرة بشكل قوي في هذا القصر وبشكل بشع.

رجفة قوية دبت في جسدها وتوقفت خطواتها فجأة في مكانها، التفتت تنظر من حولها تحاول إيجاد سبب تلك البرودة، وكأن تيار بارد من الهواء يمر من فجوة صغيرة وقد أصاب جسدها لكنها في مكان مفتوح.

شعور سيء بدأ يراودها وقد سقطت عينها على الباب الخشبي القديم في نهاية الممر الذي وقفت فيه.

لم يكن مغلق بشكل كامل وهذا ما مكنها من معرفة أنها خزانة لأدوات النظافة وقد بدت قديمة بعض الشيء ولكن لازال ذلك الشعور الكئيب يحوم حولها.

بدأت تسمع أصوات غريبة! خطوات، حفر! أنين! همس.

تسارعت وتيرة أنفاسها تكره هذه المشاعر الجديدة كليًا، ولكن بدا لها وكأن جسدها يتحرك وحدها، يدها امتدت تتلمس الباب الخشبي لا تعلم لما بالضبط لكن بدا وكأن كل شيء تشعر به في هذه اللحظة كان سببه هذه الخزنة بالتحديد.

موجة من المشاعر القوية ضربتها ما إن لمست الباب، الخوف والفزع ومحاولة بائسة لشعور بالأمان.

لم تكن أي منها مشاعرها، بل كان من الواضح أنها مشاعر بالشخص المختبئ داخل الخزانة!

اتسعت عينها تحدق بالصبي الذي تذكرته من اللوحة المرسومة في ممر القسم الآخر من القصر، ولكن هذا الصغير يملك عينين رماديتين لا يمكنها إخطاء صاحبها.

بدا المشهد بالكامل كالأطياف ولكنها تشعر بكل شيء فيه بداية من وضوح المشهد وحتى مشاعر الهلع الذي من الواضح أنها تخص الصبي لا ثونار.

فقد جلس في الخزنة مكومًا حول نفسه حاضنًا قدميه نحو صدره بينما كفي يده غطا أذنيه وفي الثانية التالية أدركت ثونار السبب فقد صدح صوت صراخ امرأة هز أركان القصر تليه صوت ارتطام جسم ما بالجدار ليتحطم لأجزاء.

جسد ثونار أجفل بقوة ولعنت ملتفته نحو مصدر الصوت وكل ما رأته كانت ذات المرأة التي رأتها هذا الصباح، والدة جوزفين ولكنها تبدو يافعة وأكثر شبابًا.

"أيــــن هــو؟" صرخت بهستيرية قبل أن تقذف بعلبة موسيقى صغيرة فوق الأرضية لتتحطم لأجزاء. حدقت ثونار في الأجزاء التي تناثرت فوق الأرضية من حولها لتقع عينها على غطاء الصندوق الخشبي حفر عليه اسم ’ج أورال’ والذي من الواضح أنه لجوزفين.

"جلالتك أهدأي أنه طفـ.." لم تتمكن الوصيفة من إكمال جملتها قبل أن تتلقى صفعة أسقطت جسدها أرضًا "إنه قاتل لعين، ليس سوى قاتل على الملك إعدامه، لقد قتل طفلي، لقد قتل طفلي.." أخذت تكرر الجملة مرارًا وتكرارًا بينما تضرب صدرها بقوة وجنون ولم تتوقف عن قول الجملة لوهلة.

في هذه اللحظة شعرت ثونار بصدرها يكاد ينفجر بسبب شعور الهلع الذي عرفت تمامًا أنها ليست مصدره فما كانت أمرأه مصابة بانهيار عصبي لتثير قلقها حتى، ولكنها كانت لتخيف صبي صغير، صبي يسمع والدته تنعته بالقاتل وتصرخ برغبة إعدامه.

كان يرتجف بشدة، يديه تركت أثرًا ذو لون أحمر فوق أذنيه لشدة ضغطه عليها وظل فكه يرتعش غير قادر على إصدار صوت.

ووقفت ثونار هناك.

تراقب الوضع كله وقد بدأت تدرك أنه ما تراه لسه إلا ذكريات، لم تجد الوقت المناسب لتفكر كيف بحق الله اكتسبت قدرة كهذه، ولم تحاول فهم كيف حدث الأمر، كل ما أرادت فعله هو إلقاء أي تعويذة على هذا الصبي حتى يهدأ لكنها ما كانت لتتمكن من فعل شيء.

فهي لا ترى سوى طيف من الماضي الذي لن يتغير.

لم تكن تلك المرة الأولى، وقفت ثونار هنا وكأنها تنظر لشريط يتم تكراره، تشاهده في كل مرة يركض نحو الخزانة وقد اختلف فقط زيه، مرة صباحًا وأخرى ليلًا، يختبئ بينما تتعالى صرخات الأم حزنًا وغضبًا تبحث عنه.

بدأ خوفه مع كل مرة يصبح أقل وتحولت تعبيره الفزعة لأخرى باهتة لا حياة فيها، مرات كانت يركض للخزانة بينما هناك أثر لصفعة أو كدمة على وجهه ومرات كانت شفتيه ملطخة بالدماء ولا تعرف ثونار بالضبط من كان الجاني في هذا القصر، والديه! أم الخدم؟ أم أن كل واحد أخذ نصيبه من الكعكة؟

كانت تراقب تحول فزعه للامبالاة، حتى أصبح في كل مرة يحفر اسمه في الباب الخشبي منتظرًا انتهاء نوبة انهيار والدته.

شعور الخوف الذي كانت تشعر به ثونار أصبح فراغًا، وكأن فجوة اتسعت في منتصف صدرها، لم تعرف كيف يمكن وصف طفل يتمكن منه شعور بشع كالاكتئاب، ولكنه كان أمرًا فظيعَا.

فشعور الاكتئاب قد يصبح أخف إذا ما أصاب شخص ناضجًا، يدرك ما أصابه ويحاول -وإن فشل مرات كثيرة- منح نفسه بعض الارتياح.

ولكن طفل صغير لم يعرف كيف يفعل هذا! ترك تلك المشاعر تلتهمه بعجز واستسلام تام.

نزعت ثونار يدها بعيدًا عن الباب وأمسكت بقميصها فوق صدرها بقوة تحاول الشعور ببعض الراحة، الشعور بأنفاسها تدخل وتخرج دون أن يضيق قلبها مع كل نفس.

كل أطياف الماضي اختفت واختفى معها ذلك الشعور الخانق.

ولم يبقى سوى الحفر الباهت على الباب الخشبي والذي اقتربت ثونار منه تحاول قراءته.

’جوزفين قتل أيديّن’

’جوزفين لا يستحق العيش’

’جوزفين 13 عامًا لترقد في سلام’

’أنا بشع’

’أنا وحش’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

’أنا أسف’

ظلت ثونار تحدق بتلك الكلمات بأعين متسعة تقرأها مرارًا وتكرارًا وهذه المرة كان شعور الضيق خاص بها وليس بأحد آخر.

 وعادت تقف أمام السؤال الوحيد مجددًا.

ما الذي حدث بين جوزفين وأيديّن؟

ظلت تحدق بكفي يدها ولازال شعور بالبرودة يعتريها وكأن يدها وضعت فوق ثلجة لا باب عادي، لم تفهم أيضًا كيف حدث ما حدث ولكنها تعلم أن هناك خطب ما.

صوت قرع أقدام صغيرة دفعها للالتفات بسرعة خلفها لتلمح أطيافًا تركض أمام الممر ومجددًا.. ذلك الشعور السيء بالبرودة بدأ يراودها ويزعزع هدوء جسدها.

بشفتين مرتجفة تحركت بهدوء بعيدًا عن الممر تتبع أصوات الخطوات والضحكات الطفولية المكتومة، كلما شاهدت ما يحدث كلما كانت تدرك ما يصيبها في هذا القصر.

قدرة مشاهدة أطياف من الماضي!

لكن ما أثار خوفها أنها قدرة تتميز بها نوع معين من الساحرات، نوع محظور من السحر، وثونار كانت غنى عن تهمة إضافية تضاف لملفها أمام ملكة الساحرات.

قدرة قراءة الذكريات بمشاعرها للأحياء قدرة اختصت بها الساحرات الماهرات في عالمها ولكن قدرة رؤية ذكريات المكان، كانت تسمى أطياف الماضي، قدرة محظورة لقوة خطورتها ولم تتمكن من اتقانها إلا ساحرات الظلام.

ونعم ربما كانت ثونار مهتمة كفاية لمعرفة بعض تعويذات السحر المظلم لكنها كانت تعويذات لا تسبب ضررًا أو كما تفضل تسميتها تعويذات المستوى الاول، أما ما يحدث معها الآن أشبه بتعويذة في المستوى مئة!

وهو مستوى كافٍ باتهامها بالتورط في أعمال سيئة، سيئةٍ جدًا.

وقفت أمام الساحة الشاسعة أمامها، تحدق بمصدر صوت القهقهات الصغيرة، صبيان يبدوان في الحادية عشر من العمر، الشبه بينهما غير معقول لدرجة تجعل من الطبيعي الظن أنهما توءمان والاختلاف الوحيد بينهما كان لون العينين.

ولكن ما عرفته ثونار وما سمعته أن شقيق جوزفين كان أكبر منه بعامين تقريبًا وبالرغم من ذلك، الشبه بينهما كان مرعبًا بحق.

كان من الواضح أن الاثنين ينعمان بتناغم لطيف كشقيقين، وبدا دائمًا أن جوزفين كان الشخصية القيادية بينهما بالرغم من أنه الأصغر، طريقة عبثهما وركضهما في الأرجاء، كان أيديّن ذو الأعين الزرقاء يتطلع لأخيه وكأنه قدوته الأولى والأخيرة.

وبدا جوزفين مستمتعًا كثيرًا بدوره في حماية أيديّن وترأس أي مغامرة بينهما.

بدا لثونار أن كل شيء طبيعي أكثر من اللازم حتى!

لكن ليس لوقت طويل..

فينما يعبثان حضرت إحدى الوصيفات تطلب حضور السيد أيديّن لغرفة جلالتها، نهض الصبيين من فوق الأرضية يحدقان بالخادمة التي أبدت اهتمامًا بأيديّن فقط ولكن جوزفين بدا غير متأثرًا وظل يستمع بابتسامة.

"هل قالت والدتي لما؟" سأل لتومئ الخادمة بابتسامة قائلة: "أنه لأجل الصورة جلالتك" اتسعت عين أيديّن وبدا في القفز بحماس بينما بدل جوزفين عينه بين الاثنين باستغراب "أي صورة؟".

سأل وقد كان من الواضح أنه يسمع بالأمر للمرة الأولى، ارتبكت الخادمة فجأة وحاولت تدارك الأمر قائلة: "أنه لا شـ.." قاطعها أيديّن بسرعة جاذبًا يد شقيقه "لقد قالت والدتي أن رسامًا ما قدامًا لرسم صورة لنا كعائلة، أليس هذا رائعًا؟ كما كانت تخبرنا آني في قصصها عن الأمراء الذين تم رسمهم".

التمعت أعين جوزفين وبدا الحماس يتدفق في جسده ظاهرًا على وجهه وصرخ: "إلهي هذا رائع" أومأ أيديّن ضاحكًا "يبدو أن أمي نست إخبارك".

نوعًا ما خفتت ابتسامة جوزفين هامسًا بـ "ربما!" ولكن شيء ما أخبره بعكس ذلك، فتلك ليست المرة الأولى ولكنه رمى كل تلك الأفكار خلف ظهره مستمتعًا بحماس شقيقه والتفت يسحب ايديّن خلفه ضاحكًا حتى لا يتأخران وخلفهما راقبتهما الخادمة بوجه جامد مدركة كم التوبيخ الذي سيصيبها.

كانت ثونار تتبعهما بلا تفكير، غير مهتمة بنظرات الخدم من حولها، كانت ترى ما لا يراه غيرها وكنت تشعر بما لا يشعرون، لم تكن مهتمة إن احترق القصر كله الآن كل ما أرادت هو معرفة كيف ولما؟

وقفت أمام أحد الغرف التي بدت على الواقع مغلقة وقد تجمعت الأتربة في زواياها، بينما تم تغطية أثاثها بملاءات بيضاء متسخة ورائحة المكان مشبعة برائحة الأتربة وبعض الرطوبة الثقيلة.

ولكن في أعين ثونار كانت غرفة جديدة منارة بإضاءات جذابة وكل جزء منها تمت العناية به باهتمام وفي منتصفه جلست جلالة الملكة أمام أحد الرسامين بأدواته تنتظر حضور ولديها وابتسامة صغيرة اعتلت ثغرها.

اقتحم المكان الصغيران بينما أصوات ضحكاتهما المتحمسة وأحاديثهما ملأت الغرفة الكبيرة وخلفهما وقفت الوصيفة بهدوء ظاهري لكن بتعبير متوتر.

اتجه الاثنين نحو والدتهما يتحدثان في ذات اللحظة يتساءل كل واحد عما عليه فعله وكيف عليه الوقوف وكل واحد كان يلقي بتفضيلاته التي يريد أن يظهر بها في اللوحة. حدقت بهما والدتهما بصمت قبل أن تمسح على رأس أيديّن موبخه "ألم تحذرك الوصيفات من اتساخ ملابسك بعد تجهيزك هذا الصباح؟" هربت أناظره بعيدًا عنها وتمتمت ببعض الذنب قائلًا "لم يكن عن قصد".

ضحك الرسام الذي سمع كلامهما قائلًا: "لا بأس، يمكنني تجنب إضافة أي شيء غير مرغوب فيه". أومأت الملكة بامتنان قبل أن تلتف نحو جوزفين الذي قال: "لم تتسخ ملابسي كثيرًا أيضًا" حدقت به قبل أن تنظر للوصيفة التي وجهت عينها بسرعة نحو الأرضية ببعض الخوف.

يدها الدافئة تلمست وجنته وأثنت عليه قبل أن تقول: "أيديّن، أذهب مع ليّا وأحضر ربطة العنق الزرقاء من الدرج الأيمين". ركض أيديّن بحماس برفقة الوصيفة التي تحركت على الفور نحو درج الخزنة في زاوية الغرفة.

"جوزفين، لما لا تذهب لتغيير ملابسك والتجهز لحصتك القادمة فمعلمك في الطريق" حدق بوجهها وقد أخذت ابتسامته تخفت تلقائيًا "لكن السيد راسفام لا يحضر إلا بعد ساعتين أمي، بإمكان السيد الرسام رسمي اولا ثم.." قاطعته متنهدة قبل أن تقول مبتسمة برقة: "عزيزي، لا تحزن! لكن يُفضل أن يظهر فقط شقيقك أيديّن في هذه الصورة، أنت فتى ذكي ومراعي يمكنك فهم ما أقول أليس كذلك؟".

ظل يحدق بعينيها بصمت دون تعقيب لتردف: "تعلم أن علينا دفع شقيق حتى يعترف به والدك، فقط حتى يصبح جديرًا بمكانة ولي العهد، بإمكانك دائمًا دعمه والبقاء حوله ولكن.." اقتربت منه طابعه قبلة صغيرة فوق وجنتيه هامسة:

"عليك البقاء خلفه، عليك البقاء في ظله".

وكأن أحدهم فجأة وضع عدسة رمادية أمام عينيك، هذا تمامًا ما شعرت به ثونار، الأجواء اللطيفة والدافئة، كانت تمتزج بالرمادي، ذلك الشعور الدفين بأن أحدهم سحبك بقوة لأرض الواقع لترطم بشدة وكأن ظل ضخم خيم فوقك.

هذه كلها كانت مشاعر مسروقة، وصاحبها الأصلي كان يقف في الزاوية محدقًا بوالدته وشقيقه يقفان معًا لأخذ صورة بعد أن تحجج أمام شقيقه الأكبر بألم معدته حتى لا يقف معهما.

حالت الغرفة فجأة لظلام ومعها أطلقت ثونار نفسًا كان من الصعب إخراجه، التفتت حولها تنظر للغرفة القديمة والمهملة مدركة أنها دُفعت بعيدًا مجددًا..

لكنها لم تكتفِ لا تريد التوقف، القبضة التي كان تتمسك بحلقها كانت تصبح أقوى في كل مرة وشعرت أن خلاصها هو معرفة كل شيء.

لهذا خرجت من المكان مسرعة متتبعة ذلك الشعور الرقيق بالبرودة ومشاعر البؤس التي كانت تحيط وتلتف بالقصر وبكل غرفة فيه، لا يمكنها التوقف ولا يمكنها الاهتمام بنظرات الخدم واسئلتهم، أرادت مطاردة تلك الأطياف، لم تكن تعرف هل ما كانت تحاول الوصول إليه هو نهاية القصة أم بدايتها؟

توقفت عندما لمحتهما مجددًا، يتقفزان في سباقًا صغير صبياني بينهما فوق بلاط القاعة الكبيرة كل واحد فيهما يدفع الآخر للفوز أو الوصول لنقطة النهاية الوهمية أولًا.

صوت قرع الأقدام الذي صدح في المكان دفع الاثنين للوقف عن العبث فجأة والتفاتا لمصدر الصوت، ثلاثة اشخاص توقفوا ما إن توقف الرابع والذي كان ينتصفهم، أعين الملك وقعت فوق الشقيقان دون أي تعبير معين.

وقف الاثنين بانضباط كبير قبل أن ينحنيا باحترام مبالغ فيه قائلا في صوت واحد "جلالتك".

شعرت ثونار بالقشعريرة تسير في كامل جسدها بينما شعور بين الحذر والخوف بدأ يعتريها، وكأنها تقف على أطراف أصابعها أمام وحش كبيرًا وأي حركة خاطئة قد تفسد يومها بالكامل، عينها حدقت بجوزفين الذي تمسك بقميصه بقوة وقد بدا العرق يغزوا رقبته بينما لم يتجرأ في رفع عينه نحو والده.

ولكنه شعر بنظرات والده، النظرات التي ملأها السخط والغضب كانت وقعها ثقيل على كاهله لذلك عوض عنه رفعت ثونار أناظرها نحو أورال، كان يبدو أصغر في السن ولكن تلك العينين القاسيتين لم تتغيران.

نظرات الغضب، خيبة الأمل كانت هي الوحيدة التي يحدق بها بالصغيرين "لما كلاكما هنا ولستما في غرفة الدراسة". رفع أيديّن أنظاره بابتسامة مؤدبة وقال: "نحن في انتظار أستاذ الأدب، سيكون هنا خلال سـ.." أجفل الإثنان ما إن قطاعه أورال بصوت عالي زلزل المكان "ومن منحكما إذن اللعب في وقت الدراسة؟".

بدت عيني أيديّن تلتمع بالدموع وارتجفت شفتيه بخوف وقال مترددًا: "أ..أ.مـ..أمي مـ.." قاطعه جوزفين بسرعة ساحبًا ذراعه ورفع رأسه ينظر لوالده بثبات رغم أن داخله يرتجف بشدة "نعتذر جلالتك على تقصير كلانا، سنتجه فورًا لغرفة الدراسة".

أراد الهروب من تحت أنظار والده، الركض والاختباء، ولكنه وقف ثابتًا في مكانه ممسكًا بيد شقيقه "كلاكما عالة على هذا القصر" بصق قبل أن يتخطى جسديهما بخطوات ثقيلة خارج المكان يتبعه حارسه الشخصي والذي يملك شبه قويًا بحارسته الحالية واثنين آخرين لم تتمكن ثونار من حزر من هما.

راقبت ثونار الأخوين، يربت جوزفين على ظهر أخيه مشجعًا حتى لا ينفجر في البكاء وهيئتهما بدأت تختفي شيئًا فشيء.

ولكن هيئة أورال التي مرت من جوارها كانت قوية لذلك التفتت بسرعة تلحق به، كان من الواضح أن الدقائق التي تركض فيها لاحقة بطيف أورال كانت في الماضي يومًا كاملًا، فما إن وجدت نفسها واقفة أمام باب مكتبه الشبه مفتوح كانت النوافذ التي انزاحت عنها الستائر تظهر غروب الشمس خلفهما.

جلس أورال خلف مكتبه ممسكًا بأحد الأوراق يحدق بها بينما أمامه بكل هدوء وقفت جلالتها تنتظر بصمت.

"أتعلمين ما هي وظيفتك في هذا القصر؟"

كسر الصمت سؤاله، اشتدت قبضة الملكة فوق كف يدها الآخر ولكنها حافظت على اتزانها مجيبة "بالطبع سموك، أنا هنا سندًا لجلالته ولهذه المملكة، ومن واجبي منحك ومنح مملكتنا وريث للعرش الـ.." ابتلعت باق جملتها عندما ألقي أورال الورقة فوق المكتب ونهض واقفًا وقد حدق بعينها بكل برود.

"وماذا؟"

سأل واقفًا أمامها لترتجف شفتيها "و.. والحرص علـ.." ارتبكت مجددًا تحت أنظاره تشعر بالخوف يتحكم بأعصابها.

شهقت بقوة ما إن تلقت صفعة قوية فوق وجهها ليرتطم رأسها بالجدار على يمينها. لم تجد فرصة لمعالجة ما حدث فرأسها سُحب بقوة وشعرت بخصلات شعرها الذهبية تكاد تُنزع من مكانها.

أمسك أورال بشعرها الذي جمعته فوق رأسها وسحبها بقوة نحوه هامسًا أمام وجهها وكل كلمة تخرج من بين أسنانه بغضب "واجبك هو وريث العرش وحسب، هذا كل ما يجب عليكِ فعله جلالتك، إنجاب وريث للعرش والحرص على نشأته بشكل يليق بمملكتنا، لسنا أحد رعاع المملكة حتى نترك أمير هذه المملكة يلهو ويمرح كما يريد". يدها تمسكت بقبضته التي سحبت شعرها بينما الدموع أخذت تشكل غشاء فوق عينها وهي تحدق بنظراته الغاضبة التي ظلت تلاحقها طيلة حياتها.

كان بإمكانها تذوق طعم الدماء فوق شفتيها بسبب الصفعة التي تلقتها، وبالرغم من هذا، كل ما كان بإمكانها فعله هو الاعتذار وترجي العفو.

أطلق سراح شعرها قبل أن يمسك بفكها بقوة يكاد يحطم عظامه بين أصابعه "إن لم تقوم الملكة بدورها في هذا القصر، فلا فائدة ترجى من وجودها في هذه الحياة، لذلك راقبي ولي العهد وابعدي عنه أي تشتت حتى يصبح ملكًا ذو أحقيه وإلا ألقيت بك أمام عند بوابات القصر أو داخل زنزانة في قبو هذا المكان".

منعت بكل ما تملك من قوة دموعها من النزول وبالرغم من انها كانت واضحة في عينها لكنها لم تتجرأ حتى على البكاء أمامه، مكانتها كملكة لم تسمح لها يومًا بهذه الرفاهية.

أما ثونار التي راقبت المشهد بصمت فجأة بدأت تشعر بغضب، غضب وحقد قويين بينما تحدق بأعين أورال بكل كراهية وكأنها على استعداد للانقضاض عليه في لحظه.

إلا أن تلك لم تكن هي.

لحظة أدراك واجهتها عندما التقطت بطرف عينها الجسد الصغير الواقف بجوارها.

يحدق خلال الباب غير محكم الإغلاق يراقب ظهر والدته وقد انعكست أضاءه الغرفة على نظراته الرمادية التي ملأها الحقد والضغينة.

كان من غير الطبيعي لها أن تشعر بطفل يحمل هذا الكم من الكره اتجاه والده، حتى بالرغم من كونها لم تملك يومًا عائلة ولم تعرف كيف تبدو تلك المشاعر ولكنها بشكل بديهي تعرف أن هذه ليست بعائلة!

مجددًا بدأ كل شيء يبهت مما دفعها للتراجع بسرعة في محاولة للحاق بجسد جوزفين الصغير الذي ركض خلال الممر ما إن أدرك أن والدته تكاد تخرج من المكتب.

وقف في منتصف الطريق ولم يجد الوقت الكافي للاختباء خلف أحد أبواب الغرف ليتجمد جسده عندما حاصره صوت والدته الذي خلت نبرتها من أي اهتمام "لما أنت خارج سريرك؟".

التفت على أطراف أصابعه يحدق بوجهها المبعثر، أثار للدماء لطخت شفتيها، كدمة زرقاء لطخت فكها وواحدة على زاوية رأسها وشعرها بالكاد متماسك.

أبتلع وفرك كفي يده قائلًا: "أمي!! هل أنتِ بخير؟". لم تطرف حتى وظلت تحدق به وقد كررت بنبرة أكثر قسوة "أجب عن سؤالي جوزفين". شعر بنفسه صغيرًا جدًا وضعيفًا جدًا أمام والدته وقد انعكس ظلها فوقه بسبب الإضاءة الخفيفة من خلفها.

"أردت شرب بعض الماء" عض شفتيه بتوتر وما إن رفع عينه نحوها حتى امتدت يد والدته ممسكة بفكة بعنف، حدق بوجهها بأعين متسعة بدأت تمتلئ بالدموع ولكنها صاحت به "لا تكذب علي! جميع أفعالك الغبية تؤثر على شقيقك، ألم أحذرك لتبتعد عن طريقه".

دفعته بعيدًا ليتعثر بخطواته ويقع فوق الأرضية بقوة.

بدا وكأن صوت ارتطامه أعادها للواقع، تغيرت نظراتها الممتلئة بالغضب لأخرى متفاجئة قبل أن تصيح "أوه صغيري!" ركضت بسرعة نحوه تسحب جسده نحوها "أنا أعتذر، والدتك أسفة جوزفين، كنت فقط غاضبة، لم أقصد أذيتك". ضلت تمسح على رأسه مما دفعه لتمسك بجسدها ببطء وصمت.

ظل يربت على كف يدها الممسكة بجسده ولكن شيء ما كان مختلفًا، بإمكان ثونار الإحساس به، شيء من انعدام الأمان كان يكبر داخله حتى بين أذرع والدته.

التفتت ثونار خلفها بسرعة عندما سمعت صوت أحاديث في القاعة الكبيرة خلفها، ليظهر طيف آخر للملكة تسير برفقة أيديّن كلاهما يضحكان بينما يقفز أيديّن من حولها يحكي لها إحدى مغامراته وعلى الرغم من السعادة الواضحة كانت لاتزال تشعر بشعور سيء، شعور بالوحدة.. لذلك التفتت عينها تحوم في المكان تبحث عن سبب هذا الشعور حتى وجدته واقفًا في الطابق الثاني ممسكًا بدرابزين السلم يحدق بوالدته وشقيقه يخرجان للحصول على نزهة في الحديقة.

جذب انتباهها مجددًا على الطرف الآخر من الممر حيث كان مكتب الملك أورال صوت صياح قوي.

هرولت نحوه تنظر حيث وقف أورال محدقًا بإبنه بكل كراهية والأخير ملقًا فوق الأرضية ممسكًا بأنفه الدامي بينما يحدق بوالده بعينين كارهتين.

"ألا يكفيك جرمك؟ أتحدق بي بهذه العينين أيها اللعين؟" صاح والده وقد فقد التحكم في غضبه وأنفاسه متسارعة، أجفل جسد ثونار بقوة واتسعت عينها عندما ركل جسد جوزفين الصغير بقوة مسببًا تأوهه العالي "بحق الإله ما خطبك؟" صاحت ثونار وقد فقدت اخيرًا السيطرة على أعصابها ولكن لم يلتفت لها أحد.

كانت مشوشة فيبدو أن الخط الزمني فجأة تغير، تارة ترى طيف جوزفين في كل مكان يحدق بالخدم يثنون على أيديّن وتارة أخرى تجده يركض مجددًا مختبئ من والدته التي انهارت وقد ملأ صراخها القصر متهمة أبنها بأبشع الأوصاف.

بدأت تختلط مشاعر جوزفين داخلها وشعرت وكأنها تفقد السيطرة على قدرتها.

مرة تنظر لجوزفين واقفًا بعيدًا عن مجموعة من الخدم يتهامسون فيما بينهم عن جريمة الأمير البشعة تخالجه مشاعر بالحزن ورغبة قوية بتفسير موقفة..

وتارة اخرى تجده مختبئ في أحد الغرف يعتريه شعور بالذنب ولا تكاد تلتقط أنفاسها حتى يظهر طيف له واقفًا أمام والده الغاضب والذي يصب جام غضبه عليه، يصفع وجهه أو يلقيه من أمامه متهمًا إياه بالقتل.

مرة تلو الأخرى كان يحدق بوالده الغاضب، كدمة حول عينه مرة، وشفتين داميتين مرة أخرى ومرة يتكوم حول نفسه في زاوية المكتب يرتجف بينما يحدق بوالده الجالس فوق مكتبه بهدوء بعد أن أنهى نوبة غضبه.

وفي كل مرة فيهم كانت مشاعره مختلطة، تارة هو مذنب، تارة هو بريء، لا تعلم ثونار إن كان جوزفين نفسه يعلم إن كان مذنبًا أم لا.

همسات بدأت تعلو من حولها: قاتل، شياطن، مسكين، ضحية، غيور، خطيئة!

وأطياف لمئات الخدم يمرون من حوله يتهامسون وانظارهم ترمقه من كل حدب، وكل ما اختبئ مغطيًا آذانه وجدته والدته، تنفرج أساريرها صائحة "أيديّن" تحتضن جسده تداعبه وسط تعبيره المرتعب وما إن تحدق بعينه تتجمد، تنظر له مجددًا ويبدأ الغضب يعتريها..

وقفت ثونار تنظر بأعين متسعة نحو جسده الصغير ملقى فوق الأرضية بينما أجثمت والدته فوقه، وقد أحكمت كفيها حول عنقه بينما الأخير ظل ينظر نحوها بأعين رمادية حمراء كالدماء يحارب لأجل نفس أخير..

"أمقت كم تشببه، أمقت كم تشبه والدك اللعين، عليك الموت فحسب، كان عليك أنت الموت لا هو".

تراجعت ثونار للخلف بصدمة لتتعثر واقعة على الأرضية بينما تحدق بما يحدث بأعين دامعة وبلسان منعقد، وهذه المرة لا تعلم إن كانت مشاعر الفزع التي تعتريها كانت تخصها أم تخص الصبي الصغير أمامها.

اندفعت الخادمات نحو الغرفة بسرعة ممسكات بجسد سيدتهم يدفعونها بعيدًا عن جوزفين الذي بدأ يسعل بقوة بينما لازال ملقى في مكانه يحدق بالسقف يستمع لصرخاتها الهستيرية التي تفصح عن رغبتها الشديدة بقتله.

ظلت ثونار تراقبه بصدمة شلت جسدها، بينما ظل في مكانه وقد سكنت الغرفة من حوله لدقائق..

أثار يديها الحمراء حول رقبته، أثار كدمة قديمة حول عينه وجرح شبه ملتئم أفسد شكل شفتيه. جميعها علامات تُركت فوق جسده الهزيل.

نهض بهدوء من مكانه واتجه لطاولة في زاوية الغرفة، بعينين فارغتين، التقط القلم الحديدي من فوق المكتب واتجه نحو الباب المفتوح في أخر الغرفة والذي كان يمنح المكان الإضاءة.

رقابته ثونار واقفًا أمام مرآة حمامه يحدق في انعكاسه وقد تحكم به شعور واحد، كان من الواضح أنه على اقتناع تام بفعلته، كان يعلم أنه قاتل وكان يعلم أنه يجب معاقبته على ما فعل.

ظل يحدق بعينيه الرمادتين وصدى صوتها يتردد داخل أذنه..

أمقت كم تشببه!

"أنا أعلم" همس بها بصعوبة قبل أن يرفع القلم موجهًا طرفه الحاد نحو مقلتي عينه اليمنى "فقط إن كانت زرقاوتين" همس مجددًا ولم تدمع عينه للحظة!

رفع يده قبل أن تهبط بسرعة نحو عينه لتصرخ ثونار بسرعة مغلقة عينها بهلع.

لم تكن في حياتها تهاب الدماء أو أي من المشاهد العنيفة ولكن الأن بالذات شعرت أن ما رأته يكفي، لا تريد معرفة ما حدث لا تريد إكمال هذا، فقط تريد لهذه الأطياف التوقف.

كانت بالكاد تتنفس عندما فتحت عينها تنظر له مجددًا، واقفًا بيأس وقد سقطت يده بجواره ليسقط القلم من يده وشعور الضعف والعجز سيطر عليه، فلم يقوى على فعلها.

نهضت ثونار من مكانها وانطلقت خارج الغرفة تريد التخلص من كل هذا، لم يعد بإمكانها التحمل لذلك ركضت ولكن لم تعرف كيف تتوقف.

لازالت زوايا القصر كله تعج بالصور، بالهمسات، شعرت وكأن المكان كله يحدق بها، يتهمها بجرم لم تفعله، الخدم، الحرس، الصور، جميعها تنظر نحوها هامسة بقاتلة.

كان تدرك أنها ليست المالكة الأصلية لهذه المشاعر، لا شيء من ذلك قد يؤثر حقًا بها لكنها لا تعلم كيف تتحكم بالأمر، كيف تفصل مشاعرها عن مشاعر جوزفين العالقة في هذا القصر..

ركضت بسرعة تبحث عن مخرج غير مهتمة بالأجساد التي تصطدم بها، كل ما تريده هو الخروج وحسب.

عبر جسدها البوابة الخلفية بسرعة ولكنها لم تتوقف، أرادت إيجاد مكان واحد هادئ، مكان واحد لم يشعر به جوزفين بالسوء، بالخوف، بالفزع، بالذنب..

لم تعلم إلى أين تأخذها قدماها ولم تتوقف حتى تعثرت بقوة لتقع فوق وجهها على الأرضية العشبية المحملة برائحة الرطوبة.

ظلت في مكانها لدقيقة متجاهلة الألم القوي الذي أصاب أنفها.

رفعت جسدها بصعوبة وجلست منحنية فوق الأرضية تلتقط أنفاسها.

"لا يجب علينا الابتعاد كثيرًا أيديّن!".

رفعت رأسها بسرعة تحدق بصاحب الصوت. واقفًا بتوتر ينقل وزنه من قدم لأخرى بينما ينظر لأخيه الذي انحنى فوق الأرض يبحث عن شيء ما.

"سأحاول إيجاده بسرعة جوزفين، توقف عن النحيب" تذمر الآخر بينما يحاول إيجاد شيء ما قد أضاعه "يمكننا إحضار خاتم آخر غيره، علينا العودة للقصر قبل أن يلاحظ جلالته اختفائنا في هذا الوقت".

"لا" صاح أيدين بغضب لينظر نحوه جوزفين بسرعة "أنه هدية من أمي، لا يمكنني التخلي عنه بهذه السرعة". بدأت مشاعر الغضب تجتاح جوزفين أيضًا مما دفعه لسحب شقيقه بقوة ليقف على قدميه "توقف عن كونك طفلًا متذمرًا، أنا من أنال التوبيخ كل مرة بالرغم من أنك الأكبر، لنعد الآن".

حدق الآخر به بعند قبل أن يمسك بقبضة يد جوزفين الممسكة بقميصه ينتزعها ويلقي بها بعيدًا "أن أردت العودة فعد وحدك، أنت فقط سعيد لأنني أضعت خاتمي أليس كذلك؟". حدق جوزفين بشقيقه بدهشة متمتمًا: "مـ..ماذا؟" تجاهله أيديّن وعاد للبحث مجددًا لكن جوزفين اتجه نحوه وسحبه لينظر نحوه وصرخ في وجهه بغضب: "ماذا قلت للتو؟".

دفعه أيدين بقوة صارخًا بدوره: "أنت تشعر بالغيرة جوزفين، توقف عن خداعي وخداع نفسك، أنت سعيد بإضاعتي لخاتمي لأنك لم تحصل قط على هدية مماثلة من أمي".

شعر جوزفين فجأة بالخيانة، وكأن شقيقه صفعه للتو وذلك الشعور بدأ يتزايد وكأن هناك صندوقًا صغيرًا يكاد ينفجر لكثرة محتوياته ولكنه كان مغلق بإحكام..

لكن يبدو أنه لم يعد محكمًا بعد الآن.

"أتظن أنك مميز؟ لأنك فقط ولي العهد! الفتى المدلل، المحبوب، على الجميع الاستماع لشكواك، على الجميع النظر نحوك، على الجميع الاعتناء بك، علي أنا دائمًا الاعتناء بك، والآن أصبحت أكن لك الغيرة أيها الجاحد ناكر الجميل" مع كل كلمة كان ينكز أخيه بقوة مثيرًا غضبه أكثر وأكثر وهذا ما دفع أيديّن للانفجار ولكم وجه أخيه بقوة.

"من طلب منك ذلك؟ من طلب منك الاعتناء بي؟ علي دائمًا الحذر حتى لا أقارن بك، علي دائمًا جذب أنظار والدي حتى لا يرى كم انت مميز، وجودك كله ليس سوى عبئ كبير في حياتي أيها اللعين" صرخ في المقابل يتنفس بصعوبة.

الهواء أصبح ثقيلًا، الهواء أخذ يعصف بالمكان، والغيوم المحملة بالأمطار أطلقت السراح لقطرات الماء حتى حال الجو ليصبح ممطرًا، باردًا!

حدق جوزفين بأيدين بغضب، غضب لم يعلم لمن كان يكنه، أكان لأيديّن أم لشخص الذي يشبه أيديّن.. والدته!

"أنا أكرهك" بصق بها قبل أن يخطو نحو أخيه وقد كررها مجددًا "أنا حقًا أكرهك!"

أومأ أيدين أكثر من مرة صائحًا "جيد، ولكن المرة القادمة توقف عن إلقاء اللوم علي لأن والدي يكرهانك أكثر مني".

كانا طفلين!

طفلين محملان بمشاعر سلبية دفعت كلاهما لقول أسوأ ما يمكن قوله حتى يُغضب الأخر فقط، لم يعني أيهما أيًا مما قال.

ولكن في هذه اللحظة لم يدرك أحداهما هذا، فقد أعماهما الغضب.

الغضب الذي دفع بجوزفين للركض نحو شقيقة ودفعه بقوة ليسقط أرضًا، غير عالمًا أنه على بعد خطوتين فقط من منحدر عالٍ. كان يقف شقيقه على حافة المنحدر القريب من القصر، لم يدرك عقله الصغير أنه حتى وإن تمالك شقيقه نفسه وحاول التوازن، فالأرض الزلقة بفعل مياه الأمطار لن تساعده.

كل شيء كان سريعًا جدًا.

سريع لدرجه دفعت جميع مشاعر الغضب والغيرة والحقد بعيدًا لتحتل مكانها مشاعر الهلع.

امام عينيه تهاوى جسد شقيقه لينزلق من فوق ذلك المنحدر في ثوانٍ وفي هذه اللحظة لم يتجمد جسد جوزفين بل دفعه الأدرينالين بسرعة ليركض بأسرع ما يمكنه ويمسك بيد شقيقه.

لم تدرك ثونار أنها ركضت معه في ذات اللحظة في محاولة لإمساك يد أيديّن.

شعرت بالخوف، وكأن حياتها على وشك الانتهاء لا أيديّن.

ظل جوزفين متمسكًا بيد شقيقه بقوة يحاول منع جسده الذي تدلى للأسف من السقوط وصرخات أخيه باسمه تزلزل كيانه.

"تماسك، لن أترك يدك لذلك تماسك". كانت أظافر أيديّن منغرسة بشدة في يد شقيقه، بينما جسد جوزفين ملقى على حافة المنحدر، ينزلق شيء فشيء نحو الأسفل بينما يحارب بشدة رافسًا بقدميه الأرض حتى يتماسك.

حدق بالهاوية خلف أخيه، شاهقة الارتفاع، ذات نهاية صخرية!

لا يريد حتى تصور ما قد يحدث إن أفلت يد أخيه، نظر لأيدين الذي حدق به بدوره بأعين فزعة ممتلئة بالدموع قبل أن يلتفت ينظر للأسف ليصرخ به جوزفين بسرعة: "أنظر لي، لا تنظر للأسفل فقط أبق عينك علي".

عض شفتيه قبل أن يصرخ بقوة يحاول بكل ما يملك سحب شقيقه للأعلى لكن كل ما تمكن من فعله هو الانزلاق للأسفل أكثر بسبب المطر المنهمر فوقهما.

"أنا أسف!" نظر لأيديّن وحرك رأسه للجانبين بسرعة صارخًا " لا تعتذر، توقف أيها الأحمق لن تموت، أنا ممسك بك، لن أتركك أبدًا أيديّن، لن أفعل". حدق به أيديّن وقد لوثت الدموع وجهه واختلطت مع قطرات المطر المنهمرة بغزارة "أنا حقًا أحبك جوزفين، لقد كنت الشخص الوحيد الذي اتطلع له دائمًا".

بدأ جوزفين بالأنين بألم، قبل أن يبدأ بالبكاء بقوة صارخًا "ألـــهــي أرجوك ساعدني".

"جوزفين".

نظر لأخيه رافضًا فكرة تركه "تماسك، أرجوك أيديّن سيأتي أحدهم أنا متأكد فقط.. لم أكن أقصد، أنا أسف، أنا حقًا أسف، لم أكن أقصد لذلك أرجوك سامحني، أنا لا أكرهك أنا لم أكرهك يومًا لذلك ارجوك فقط بضع دقائق، تماسك فيها".

رغم الخوف الذي كان يشعر به أيديّن أبتسم وأومأ نحو شقيقه قائلًا: "تبدو قبيحًا عندما تبكي".

حاول جوزفين الابتسام، حاول تهدئه أخيه لكنه لم يفلح فقد كان الهلع يسيطر عليه تمامًا، وكأنه هو من يتدلى جسده على الحافة.

"لا تقلق أيها الأحمق، سيأتي أحدهم في أي لحظة" قال أيديّن مبتسمًا بين دموعه ليبتسم جوزفين بصعوبة مجيبًا "بالطبع، لا تخف، لن أترك يديك أنا لـ.."

اختنق بكلماته عندما شعر بكف يد شقيقه تنزلق من بين يديه.

"لالالالا" ظل يكرر بينما يحاول بكل قوته التمسك بيد شقيقه "أرجوك يا إلهي، ارجوك لا" صرخ بكل ما يملك صرخ حتى تدمرت حنجرته وقد حُفرت أظافره في معصم أخيه الذي حاول التماسك.

ولكنهما كانا طفلين.

لا يمكن لقوة جسدهما التحمل أكثر من هذا.

وقبل أن يدرك جوزفين الأمر.

شعر فجأة بالفراغ بين كفي يده.

وآخر ما رآه نظرات أيديّن الزرقاء الممتلئة بالخوف الذي حاول اخفاءه لأجل جوزفين.

توقفت أنفاسه وكل ما يراه هو جسد شقيقه وقد اصطدم بالأرض الصخرية بقوة، ظلت عينه تنظر لجوزفين ولكنها خاوية من أي حياة.

دمائه بدأت تمتزج بمياه الأمطار بينما قد أخرج نفسه الأخير محدقًا بوجه شقيقه الأصغر.

وبهذا أُغلقت ستارة المسرح!

وظلت ثونار فوق الأرضية ملقاة بصدمة تعتري جسدها كله، وصوت بكائها وشهقاتها ملأ المكان، لا تعلم أكل هذه المشاعر ملك لها، أم من الطبيعي أن يحمل طفلًا صغيرًا هذا الكم من الخوف والحزن في ذات الوقت؟

تركتها أخيرًا أطياف الماضي.

وقد وصلت لما أرادت مرضية فضولها أخيرًا، متناسية أن لكل رغبة ثمنها.

*****************************************************

السلام عليكم 

ان شاء الله تكونوا بخير

اولا بعتذر جدا عشان التأخير وعايزه أقعد واشرح والله لكن ميته نعس وخايفة حاجه تانية تحصل تمنع مزول الفصل

الكهربا قطعت، اللاب فصل، تنسيق الفصل باظ الف مرة ونزلت خمس مرات لحد ما اتعدل

خايفة اقعد شوية كمان أنا شخصيًا يحصلني حاجه.

وده مبرره شيء من الاتنين.

يا الفصل نحس..

يا إن كابوسي اتحقق وشخصيات الرواية بدأت تدخل اكتر من اللزوم.

فكلكم حبو جوزفين معايا عشان يستهال والله 

أي حاجه تخص الرواية هنشرها على حساب الانستا او الفيس 

الانستا: esraa.osaama

قروب الفيس: Milagros || ميلاجروس

بس دلوقتي مضطرة اقوم انااااااااااااااااااااااااااااام 

عشان هتسحل في الجامعة بكرة 

زائد خبر اخير

عندي اختبارات شهرية الفترة دي من اول 9 فالي عنده دعوه ياريت عشان العبد لله داخل يمتحن بقوة ايمانه 

لوف يو 

باي

Esraa A

احظ بوقت ممتع بعيدًا عن العالم.

37 تعليقات

  1. اول وحدة😭😂

    انتظرناه طويلا
    شكرا لكِ يا كاتبتنا الجميلة
    اتمنى ان لا تحذفيها وان تتمي كتابتها
    نحبك كثيرا

    ردحذف
  2. واخييراا بعد انتظار 🤍✨✨

    ردحذف
  3. انهيارات 😭😭😭😭😭😭😭

    ردحذف
  4. مش مصدقة ان الفصل نزل 💃🏻💃🏻
    + حد يعرف الروايه باقيلها كام فصل وتنتهي؟.

    ردحذف
  5. الفصل عباره عن دمار شامل قطع قلبي جوزفين واخوه كله من ابوهم الخررررا الله ياخذك على جهنم ان شاء الله يا حقيررررر ويوجين كفوو احلا نقطه قوه عند جلنار هيه يوجين الف شكر لاسراء ومجهودها الفصل هايل والان جيبولي الطاقه والصبر من هنا لحتى يجي الفصل الجديد ما اظن اني راح ااكدر اتحمل كم شهر من الفصل السابق عموما شكرا على الفصل اسراء

    ردحذف
    الردود
    1. الام والأخ برضوا لهم علاقة كلهم حاولوا يحطو ضغوطاتهم عليه مع الأسف كل واحد يشوف نفسه أقوى على اللي أضعف منه مع انه هو ماكان ضعيف بس هو احتراما لهم 🤷🏻‍♀️

      حذف
  6. البارت قنبلة مفاجأت حقيقي تسلم ايدك بارت يستحق الانتظار
    بإنتظار البارت القادم على أحر من الجمر

    ردحذف
  7. الله يوفقك ويهون عليكي الفترة دي 💜🥹

    ردحذف
  8. جوزفين صعب عليا اووي بجد 😭😭😭

    ردحذف
  9. تحفه كالعاده بجد ❤️❤️❤️❤️❤️

    ردحذف
  10. 😭😭😭😭😭الفصل فخمممم وقفلته افخممم ودموعي خلصت 😭😭😭 جوزفين ارتفعت مرتبته في قلبي أكثر 😭😭😭

    ردحذف
  11. الفصل صدمة وانهيارات كثيرة مرة واحدة مع اني توقعت كيف صارت حادثة القتل ✌🏻ولكن في الواقع انصدمت
    جوزفين غلبان ومسكي مضغوط كان من ثلاث أطراف مش من طرف واحد حتى من اخوه اللي بحبه 😭
    بانتظار الفصول القادمة
    وتمنياتي لكي بكل توفيق والنجاح 🥰

    ردحذف
  12. الفصل روووعه
    انا معاكي في أي قرار تاخديه
    وشكرا لكل مجهوداتك و محاولاتك انك تكتبي لينا الفصل مع انك مكنتيش قادره
    هنفضل معاكي في أي خطوه تاخديها
    انتي مبدعه وتستحقي اكتر من كده بكتير
    ربنا يوفقك ❤️

    ردحذف
  13. قاعدة بغزة وفش اشي هون علي غير الفصل الجديد منك
    شكرا ❤️❤️❤️

    ردحذف
    الردود
    1. الله يحميك وثبتك ويرزقك من حيث لا تحتسب

      حذف
  14. الفصل يجنن🥹🥹🥹🥹 عاشت ايدج واخيرا انكشفت سالفة جوزفين وطريقة وصفج لمشاعره واحداث ماضيه مبدعه اندمجت وكأني دخلت اشوفه بدال ثونار😔😔
    طيب ما ننسى اتريوس الحب والحبيب وهو استوعب ان هو يحب جيجي😔😔☹️☹️😔☹️😔☹️😔☹️

    ردحذف
  15. الفصل عباره عن قنبله احزان كنت متوقعه ان الفصل اللي فيه ماضي جوزفين قرب بس النكد كان اوفر دوز 😭😭😭 ابدعتي يا ياسو كلعاده وفي انتظار المزيد بحبك واتمني من كل قلبي انك ترجعي عن قرار حزف الروايه وتاخدي وقتك واحنا معاكي وفي ضهرك 🥰🥰😘

    ردحذف
  16. هواي انقهرت على جوزفين بسبب التراكمات الي عاشها بحياته من الطفولة صار عنده لا مبالاة بكل شي عبالي بس اتريوس عنده ماضي مؤلم طلعوا اغلبهم مظلومين من اهلهم لو من الناس

    ردحذف
  17. تعازيا لجوزفين 💔 فصل احزان في احزان واصلي يا اسراء بجد الفصل تحفه 💔💔💔

    ردحذف
  18. قريتو للفصل من امس ولكن تاثيره مازال معايا

    ردحذف
  19. اخخخ الفصل يجنن وماضي جوزفين 😭😭😭😭حسيت الفصل قصير وخلص بسرعة ماشبعت منه

    ردحذف
  20. ياروحي انتي ربنا يوفقك يارب 😘

    ردحذف
  21. انا عيطت ع جوزفين وأيدين بجد

    ردحذف
  22. أتمنى أن ينزل الفصل قريبا لم يعد لدينا صر تعبنا،
    الحمد لله أنَّكِ بخير وشكرا كان الفصل مبهر وجمييييل

    ردحذف
  23. انا عيطت هنا اكتر ما عيطت في بارت اتريوس و انا اللي قولت ان مافيش أبأس من قصة اتريوس، انا مش هقول غير حسبي الله و نعم الوكيل في اورال و يارب اشوفه والع علشان بجد دا شخص احقر من الفن و جيلين و الحارس الحقير اللي قتل ابو و ام اتريوس حسبي الله و نعم الوكيل تاني منهم لله خربوا الطف علاقة مابين اخين ربنا يحرق قلبهم اكتر ما هو محروق، جوزفين يا روحي و الله انت تستاهل كل خير بالله يعيوني كلهم يولعوا بس انت تكون بخير انا اسفة ليك و الله دول شوية اوساخ عاوزين الحرق سيبك منهم و تعالى الارض مع جلنار هنحطك جوا نن عيونا و الله، مش هقدر اوصف كمية العباط الي عيطتها في البارت دا حقيقي بس خلينا نتكلم على الكابوس اللي حرفيا عمري ما هتخطاه ابدا البارت دا كله على بعضه عمري ما هعرف اتخطاه اصلا بس بجد فكرة ان جلنار تحلم بلوكيان دي صعبه اووي مع اني اشك انه حلم يلا ربنا يستر، يارب اشوف الفن و جيلين والعين مع اورال بنفس الجاز الوسخ حسبي الله فيهم كلهم، اترينار مولعين الدنيا، اوكتفيان يا روحي ربنا يعينك على الهبل اللي هم فيه و الله اكتر واحد بيعاني، زوندي الرايق بجد، تفتكروا يوجين هيحكي لجلنار على اللي شافه و سمعه في لقاء جوزفين بامه، حرفيا انا اللي تحملت ثمن معرفة الماضي لان انا اللي كنت هموت و اعرف ماضي جوزفين مش ثونار بجد ثونار صعبانة عليا على الاقل جوزفين عاش المشاعر دي على مدار سنين انما هي حستهم كلهم مرة واحدة فبجد مش عارفة هي هتتعايش مع المشاعر دي ازاي ، ربنا يعين ثونار و جلنار على دماغهم بجد كله من الفضول هو اللي بيودي في داهية، في الاخر منهم لله تاني البعده حسبي الله، خليني اقول اني بكره ام جوزفين حتى و هي ضحية حسبي الله فيها بردو يارب اشوفها متشعلقة من ودانها، ايدين حبيب قلبي اللي اتاخد في الرجلين انا اسفالك بردو انك عندك اب وام بالحقارة دي، لكل خادم لعين في ام دا قصر العن الاهي تتحرقوا بنفس الجاز الوسخ اللي هيتحرق بيه اورال و الفن و جيلين يا شوية حقرة، شكرا على مجهودك و ربنا يعينك و يوفقك في امتحاناتك، بجدد حبي ليكي و للرواية 💞💞

    ردحذف
  24. الماضي السوداوي لجوزيفين روعة
    من الاول كنت اتوقع جانب سوداوية منه بسبب عائلته و أنه أسقط شخص قريب له من مكان عالي ما يفسر خوفه من المرتفعات، و طريقة معاملة والده ليه و كرهه للملكة أو القصر تاعه يعني أنه محتقر أو أي شيء من هذا النوع.
    و عموما ماضيه مأساوي بشكل مؤثر خاصة من موضوع الاضطهاد من ناسه كما تقولون .
    و نار الحماسة اشتعلت لماضي أوكتيفيان هل سيقفل ملف ماضي جوزفين كما قفل ملف ماضي اتريوس؟!🔥

    ردحذف
  25. واخيرا انتظرنا كثيرا وكان الانتظار يستحق فعلا مع ان البارت حزين ولكن جميل لا تتأخري كثيرا علينا وبالتوفيق في الاختبارات

    ردحذف
  26. عودًا حميدًا عزيزتي إسراء♥️♥️♥️
    رواية توبازيوس من أمتع وأحب الروايات اللي عجزت أنساها أو أتخطاها بداية من أيام الوتباد #ميلاجروس ،ثم المدونة ،ثم أنقطاعك التام ،ومع ذلك كانت أحداثها تكرر براسي وأدعي أنك ترجعين وكنت دائمًا أنتظر تحديث المدونة على آمل ترجعين بس غبتي مدة طويلة ومع ذلك كان عندي أمل أنك ترجعين ،ورغم الغياب الطويل لكن لازالت الأحداث والشوق للابطال عالقين بجوارحي وكل مره أتذكر جلنار وقوتها وكيف التغير اللي جراء لها ،وتغير أتريوس وفضولي اتجاه حياة وماضية ،وجميع الابطال ،اههه ويوجين بذات أكثر شبح حبييييته ووقعت بغرامة ،لازلت أذكر أخر فصل نزلتيه (يوم كانو هو وجلنار بالغابة وطاحت من نفس المنحدر وتحول أتريوس) لليوم أتذكر رعشتي أول ما قرات الحدث ورجفت يديني وروحي خوف ورعب وصدمة وقشعريرة ورهبة ،وكنت مذهولة ولازلت مذهولة من طريقة كتابتك الأبداعية ما شاء الله.

    أصابني الذهول يوم شفت هذي المدونة وللمعلومية بحثت عنها بالمصادفة وكنت ادعي انك رجعتي والحمدلله حصلتك ضبطي المدونة اللي وعدتينا فيها🤝🥹.
    وأعترف من 5أيام ضليت عاكفه على قراءة الرواية من أول فصل وأصابني شعوري أول مره قراتها فيه والحين وصلت لهنا واتمنى تستمرين وتعطين كل شخصية حقها ولا تستعجلين أنتظرناك سنين وبننتظر المهم نكون راضين عن الحبكة سوا أنتي ككاتبة أو احنا كقراء♥️✨.

    والواضح أن جميع الفرسان لهم ماضي طاحن💔💔

    ردحذف
  27. أزال المؤلف هذا التعليق.

    ردحذف
  28. بتمني تشوفي تعليقي ياسراء
    انا بحب القرايه جدا
    وبكره في حياتي كلها اني مكملش حاجه للاخر
    من ٢٠٢٠ تقريبا لما نزلتي الروايه دي واتعلقت بيها جدا من ساعه ماروايه وقفت وانا بطلت قرايه خالص واكيد انتي عارفه يعني اي انك تفقد شغف قصاد هوايه فبتمني بجد من كل قلبي انك تخلصيها اسرع من كدا لاني رجعت اقرأها من الاول انا ساعات بقراء ٨ فصول ف يوم تخيلي بقعد اقرأها كام ساعه في يوم بجد روايه دي مهمه بنسبالي اوي اعرف اي نهيتها متتخريش love you

    ردحذف
أحدث أقدم

نموذج الاتصال